جميع المواضيع


"عندما يموت شخص واحد، فهى مأساة، وعندما يموت مليون شخص فهى مجرد إحصائية". لعل هذه المقولة المنسوبة لجوزيف ستالين هى أقرب ما جال بذهن الكاتب والمخرج المجرى "لازلو نيميس" عند شروعه فى صنع فيلمه الروائى الطويل الأول "ابن شاؤول"، الفيلم الذى حاز به مؤخراً على جائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبى، ومن قبلها على جائزة لجنة التحكيم الكبرى من الدورة قبل الماضية لمهرجان كان.
 
"ابن شاؤول" فيلم هولوكوست آخر يدور فى العام قبل الأخير من الحرب العالمية الثانية بداخل أحد معسكرات الإبادة الجماعية لليهود، ويلقى بالضوء، هذه المرة، على مجموعات كانت تسمى بالـ "السونديركوماندو"، وهم يهود تم استخدامهم من قبل النازيين للمساعدة فى الفتك ببنى نحلتهم مقابل بعض الامتيازات المؤقتة أو بالأحرى الموت المؤجل. من بين هؤلاء كان "شاؤول"، وهو الشخصية الرئيسية بالفيلم، ويسعى طوال الأحداث إلى دفن جثة طفل (تبناه) يخشى عليها من مصير الحرق أو التشريح، لذا فهو يبحث عن رجل دين يهودى ليتمم مراسم الدفن على الشريعة اليهودية (كما يعتقد).

ما يميّز هذا العمل، حقاً، عن مئات الأعمال الأخرى التى دارت فى نفس الفلك، هو اللغة البصرية التى قام عليها أسلوب التصوير ونجحت فى التعبير عن فلسفة صانعه التى تتقاطع مع مقولة ستالين السابقة. فقد خالف نيميز من سبقوه فى طريقة عرض تراجيديا الحرب والمحارق؛ حيث ساد الظن بأنه كلّما كانت الرؤية واسعة وبانورامية ترصد كل ما يدور بعين الرب العليمة كلّما نجحوا فى التعبير عن المأساة، بينما ارتكزت فلسفة نيميس على القرب الالتصاقى لا البانورامية .. والفرد لا العالم؛ لأن الفرد هو من يصنع المعنى لأى شىء بما فيه المأساة، بينما العالم يجعل المأساة مجرد إحصائية كما يقول ستالين، أو حتى مجرد لوحة حزينة ننظر إليها من الخارج بعطف مُتكبر، لكننا لا ندرك حجم مأساويتها حقاً، لأننا لم نعشها من الداخل.

لذلك نجد الغالبية العظمى من مشاهد الفيلم مصورة بطريقة اللقطات المقربة لوجه أو جسد البطل، فالكاميرا شبه ملتصقة به، تذهب معه أينما ذهب، لا تهتم بكافة الأهوال والبشاعة التى تحدث من حوله، فقط تهتم بتتبع هذا الفرد، ورصد حركاته وانفعالاته.

يتم التكريس لذلك المعنى بطريقة أخرى منذ لقطة البداية، فهى تكون لقطة مشوشة blurred، وملتقطة عن بُعد، لا نرى منها شيئاً يمكننا تمييزه، ثم تزول هذه الغشاوة تدريجياً، إلى أن تتلاشى تماماً ويسود بعدها الوضوح البؤرى focus المتزامن مع التحول من اللقطة البعيدة إلى اللقطة القريبة، وكأنها إشارة افتتاحية بأن حقيقة التجربة تكون مشوهة بالنظر لها بانورامياً عن بُعد، فغشاوة الصورة كانت رمزاً لتشوّه الحقيقة والفرد بعيداً، بينما البؤرة فكانت رمزاً لوضوح الحقيقة والفرد قريباً، حتى وإن همّشت كثير من التفاصيل المحيطة.
 
يقول المخرج البريطانى "لينزى أندرسون": "أن تصنع فيلماً يعنى أن تخلق عالَمَاً". ما يهم فى تلك المقولة هو أن مفهوم "خلق العالم" يسبق تصويره أو نقله أو عكسه عبر مرآه ...إلى آخره من تلك المفردات الأكثر شيوعاً عن صناعة الأفلام. ولهذا المبدأ جذورعند الفيلسوف ومُنظر السينما الفرنسى "جان ميترى" الذى قال: "الرواية هى سرد ينظم نفسه داخل العالم، بينما الفيلم فهو عالم ينظم نفسه داخل السرد".

أخلص نيميس، بشكل ما، لتلك الفلسفة فى فيلمه، فقد خلق عالماً حياً شديد الصلة بالحادثة التاريخية، لكنه توقف لدرجة ما عند هذا الخلق ولم يسقط فى إغواء النقل لكل ما قام بخلقه بصورة استعراضية، فمثلاً مناظر العُراة المُساقين لمصيرهم البشع أو المعارك والاشتباكات التى لا تهدأ أو عمليات الحرق والتعذيب الفعلية، لم تقف الكاميرا باهتمام كبير أمام كل ذلك، بل عرضته على استحياء كمجرد خلفية لتحركات وعالم البطل.

المهم أن هذا التهميش فى استعراض المأساة، سواء من قِبَل الكاميرا أو من قِبَل انفعالات البطل، لم يقلل من شعورنا ببشاعة ما يحدث، بل ضاعفه، لأنه جعلنا نواقع الحالة بعين غير موضوعية، عين تعيش الحدث. فقد وضعنا نيميس فى نفس حالة بطله النفسية، حالة حدوث القيامة، وفى الحقيقة لن يكترث أحد بالتدقيق فى تفاصيل القيامة وهو يحياها، فوقتها إما سيهرع البشر بصورة عشوائية باحثين عن نجاة ميئوس منها، أو سيدخلون فى حالات رعب هيستيرية لا تجعلهم يميّزون ما يحدث حولهم، أو سيفقدون حواس العقل والإدراك وينجرفون وراء أفعال عبثية خرقاء كما فعل "شاوول". 

 

وما سبق يأخذنا للجانب الفكرى من الفيلم والذى يتلخص فى سؤال هل للحياة قدسية؟ الصورة عبرت بشكل صادم عن عبثية الحياة وجنونها وهامشية الإنسان وانسحاقه، فالجثث والدماء فى كل مكان، لا تشفع لها صرخات أو توسلات أو محاولات للهروب. فهذا الكائن بلا قيمة. وما كان سعى شاؤول فى البحث عن رجل دين سوى محاولة لا شعورية منه لاختلاق توازن أخلاقى وروحانى فى هذا العالم الفوضوى، إنها آلية نفسية دفاعية، نبعت من جراء الصدمة، يستخدمها شاؤول ليقنع بها نفسه بأن مازال هناك من يأبه لهذه الكائنات، وأن الموت والحياة لهما ثمن وعواقب حقيقية.

المعضلة أن ذلك البحث كان يعطله عن فكرة النجاة نفسها، وعرّضه، هو ومن معه، أكثر من مرة للهلاك. وقد واجهه أحد رفاقه بذلك قائلاً: "ما فائدة رجل الدين؟! هو لن يقلل من حزننا وفزعنا"، وأخبره مرة أخرى مُتعجباً: "أراك تهتم لشأن الأموات أكثر من الأحياء". ومن هنا فالمفارقة التى يقدمها الفيلم تكمن فى خيارين، إما النجاة بأى ثمن، أو الموت فى سبيل الدوجما. والخيار الأخير يتشابه لدرجة مع موقف النازيين أنفسهم، فجرائمهم لم تكن لتتم لولا شعورهم بامتلاك الحقيقة، وشاؤول استطرد فى حماقته المُهلكة (بحسن نية)؛ ظناً بأنه يعرف الحقيقة، بينما الحقيقة التى لا يعرف الفيلم سواها هى الحياة فقط، يتأكد هذا المعنى بظهور ذلك الطفل المجهول قبل النهاية بقليل، حداثة سنه ترمز للمستقبل المنشود، وابتسامته تخلط بين فرحة النجاة والسخرية من عبثية مصير شاؤول، ثم يركض بعيداً فى البرارى نحو رحابة الحياة معطياً ظهره للعدم المرتقب بمواجهة شاؤول والنازيين.

شريط الصوت من أجود عناصر الفيلم، فقد احتوى على كل الحسيّات المطلوبة لإيصال حالة الفزع والعبثية المنشودة، فامتزجت صرخات الرعب بتلاوة الصلاوات والتواشيح الدينية وطلقات المدافع وأوامر الإبادة وحفيف النيران. كما كان خيار التقليل من وضوح صوت الحوارات المنطوقة وبتر تفاصيلها خياراً موفقاً للغاية، ساعد على اكتمال الشعور بكابوسية تلك التجربة الإنسانية .. وهو كابوس لم تخفت بشاعته سوى قبل ثوانٍ قليلة من تترات النهاية.

«ابن شاؤول» .. كابوس سينمائى عن المحرقة

كتب Amgad Gamal  |  نشر في :  2:00 م 0 تعليقات


"عندما يموت شخص واحد، فهى مأساة، وعندما يموت مليون شخص فهى مجرد إحصائية". لعل هذه المقولة المنسوبة لجوزيف ستالين هى أقرب ما جال بذهن الكاتب والمخرج المجرى "لازلو نيميس" عند شروعه فى صنع فيلمه الروائى الطويل الأول "ابن شاؤول"، الفيلم الذى حاز به مؤخراً على جائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبى، ومن قبلها على جائزة لجنة التحكيم الكبرى من الدورة قبل الماضية لمهرجان كان.
 
"ابن شاؤول" فيلم هولوكوست آخر يدور فى العام قبل الأخير من الحرب العالمية الثانية بداخل أحد معسكرات الإبادة الجماعية لليهود، ويلقى بالضوء، هذه المرة، على مجموعات كانت تسمى بالـ "السونديركوماندو"، وهم يهود تم استخدامهم من قبل النازيين للمساعدة فى الفتك ببنى نحلتهم مقابل بعض الامتيازات المؤقتة أو بالأحرى الموت المؤجل. من بين هؤلاء كان "شاؤول"، وهو الشخصية الرئيسية بالفيلم، ويسعى طوال الأحداث إلى دفن جثة طفل (تبناه) يخشى عليها من مصير الحرق أو التشريح، لذا فهو يبحث عن رجل دين يهودى ليتمم مراسم الدفن على الشريعة اليهودية (كما يعتقد).

ما يميّز هذا العمل، حقاً، عن مئات الأعمال الأخرى التى دارت فى نفس الفلك، هو اللغة البصرية التى قام عليها أسلوب التصوير ونجحت فى التعبير عن فلسفة صانعه التى تتقاطع مع مقولة ستالين السابقة. فقد خالف نيميز من سبقوه فى طريقة عرض تراجيديا الحرب والمحارق؛ حيث ساد الظن بأنه كلّما كانت الرؤية واسعة وبانورامية ترصد كل ما يدور بعين الرب العليمة كلّما نجحوا فى التعبير عن المأساة، بينما ارتكزت فلسفة نيميس على القرب الالتصاقى لا البانورامية .. والفرد لا العالم؛ لأن الفرد هو من يصنع المعنى لأى شىء بما فيه المأساة، بينما العالم يجعل المأساة مجرد إحصائية كما يقول ستالين، أو حتى مجرد لوحة حزينة ننظر إليها من الخارج بعطف مُتكبر، لكننا لا ندرك حجم مأساويتها حقاً، لأننا لم نعشها من الداخل.

لذلك نجد الغالبية العظمى من مشاهد الفيلم مصورة بطريقة اللقطات المقربة لوجه أو جسد البطل، فالكاميرا شبه ملتصقة به، تذهب معه أينما ذهب، لا تهتم بكافة الأهوال والبشاعة التى تحدث من حوله، فقط تهتم بتتبع هذا الفرد، ورصد حركاته وانفعالاته.

يتم التكريس لذلك المعنى بطريقة أخرى منذ لقطة البداية، فهى تكون لقطة مشوشة blurred، وملتقطة عن بُعد، لا نرى منها شيئاً يمكننا تمييزه، ثم تزول هذه الغشاوة تدريجياً، إلى أن تتلاشى تماماً ويسود بعدها الوضوح البؤرى focus المتزامن مع التحول من اللقطة البعيدة إلى اللقطة القريبة، وكأنها إشارة افتتاحية بأن حقيقة التجربة تكون مشوهة بالنظر لها بانورامياً عن بُعد، فغشاوة الصورة كانت رمزاً لتشوّه الحقيقة والفرد بعيداً، بينما البؤرة فكانت رمزاً لوضوح الحقيقة والفرد قريباً، حتى وإن همّشت كثير من التفاصيل المحيطة.
 
يقول المخرج البريطانى "لينزى أندرسون": "أن تصنع فيلماً يعنى أن تخلق عالَمَاً". ما يهم فى تلك المقولة هو أن مفهوم "خلق العالم" يسبق تصويره أو نقله أو عكسه عبر مرآه ...إلى آخره من تلك المفردات الأكثر شيوعاً عن صناعة الأفلام. ولهذا المبدأ جذورعند الفيلسوف ومُنظر السينما الفرنسى "جان ميترى" الذى قال: "الرواية هى سرد ينظم نفسه داخل العالم، بينما الفيلم فهو عالم ينظم نفسه داخل السرد".

أخلص نيميس، بشكل ما، لتلك الفلسفة فى فيلمه، فقد خلق عالماً حياً شديد الصلة بالحادثة التاريخية، لكنه توقف لدرجة ما عند هذا الخلق ولم يسقط فى إغواء النقل لكل ما قام بخلقه بصورة استعراضية، فمثلاً مناظر العُراة المُساقين لمصيرهم البشع أو المعارك والاشتباكات التى لا تهدأ أو عمليات الحرق والتعذيب الفعلية، لم تقف الكاميرا باهتمام كبير أمام كل ذلك، بل عرضته على استحياء كمجرد خلفية لتحركات وعالم البطل.

المهم أن هذا التهميش فى استعراض المأساة، سواء من قِبَل الكاميرا أو من قِبَل انفعالات البطل، لم يقلل من شعورنا ببشاعة ما يحدث، بل ضاعفه، لأنه جعلنا نواقع الحالة بعين غير موضوعية، عين تعيش الحدث. فقد وضعنا نيميس فى نفس حالة بطله النفسية، حالة حدوث القيامة، وفى الحقيقة لن يكترث أحد بالتدقيق فى تفاصيل القيامة وهو يحياها، فوقتها إما سيهرع البشر بصورة عشوائية باحثين عن نجاة ميئوس منها، أو سيدخلون فى حالات رعب هيستيرية لا تجعلهم يميّزون ما يحدث حولهم، أو سيفقدون حواس العقل والإدراك وينجرفون وراء أفعال عبثية خرقاء كما فعل "شاوول". 

 

وما سبق يأخذنا للجانب الفكرى من الفيلم والذى يتلخص فى سؤال هل للحياة قدسية؟ الصورة عبرت بشكل صادم عن عبثية الحياة وجنونها وهامشية الإنسان وانسحاقه، فالجثث والدماء فى كل مكان، لا تشفع لها صرخات أو توسلات أو محاولات للهروب. فهذا الكائن بلا قيمة. وما كان سعى شاؤول فى البحث عن رجل دين سوى محاولة لا شعورية منه لاختلاق توازن أخلاقى وروحانى فى هذا العالم الفوضوى، إنها آلية نفسية دفاعية، نبعت من جراء الصدمة، يستخدمها شاؤول ليقنع بها نفسه بأن مازال هناك من يأبه لهذه الكائنات، وأن الموت والحياة لهما ثمن وعواقب حقيقية.

المعضلة أن ذلك البحث كان يعطله عن فكرة النجاة نفسها، وعرّضه، هو ومن معه، أكثر من مرة للهلاك. وقد واجهه أحد رفاقه بذلك قائلاً: "ما فائدة رجل الدين؟! هو لن يقلل من حزننا وفزعنا"، وأخبره مرة أخرى مُتعجباً: "أراك تهتم لشأن الأموات أكثر من الأحياء". ومن هنا فالمفارقة التى يقدمها الفيلم تكمن فى خيارين، إما النجاة بأى ثمن، أو الموت فى سبيل الدوجما. والخيار الأخير يتشابه لدرجة مع موقف النازيين أنفسهم، فجرائمهم لم تكن لتتم لولا شعورهم بامتلاك الحقيقة، وشاؤول استطرد فى حماقته المُهلكة (بحسن نية)؛ ظناً بأنه يعرف الحقيقة، بينما الحقيقة التى لا يعرف الفيلم سواها هى الحياة فقط، يتأكد هذا المعنى بظهور ذلك الطفل المجهول قبل النهاية بقليل، حداثة سنه ترمز للمستقبل المنشود، وابتسامته تخلط بين فرحة النجاة والسخرية من عبثية مصير شاؤول، ثم يركض بعيداً فى البرارى نحو رحابة الحياة معطياً ظهره للعدم المرتقب بمواجهة شاؤول والنازيين.

شريط الصوت من أجود عناصر الفيلم، فقد احتوى على كل الحسيّات المطلوبة لإيصال حالة الفزع والعبثية المنشودة، فامتزجت صرخات الرعب بتلاوة الصلاوات والتواشيح الدينية وطلقات المدافع وأوامر الإبادة وحفيف النيران. كما كان خيار التقليل من وضوح صوت الحوارات المنطوقة وبتر تفاصيلها خياراً موفقاً للغاية، ساعد على اكتمال الشعور بكابوسية تلك التجربة الإنسانية .. وهو كابوس لم تخفت بشاعته سوى قبل ثوانٍ قليلة من تترات النهاية.

0 التعليقات:

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
back to top