جميع المواضيع

 
 مع أواخر العقد الثالث من القرن الماضى، عندما ظهر الحوار الصوتى بالأفلام بعد سنوات من السينما الصامتة، لم تقتصر النظرة له كفتح تقنى سيعود على هذا الفن بما هو إيجابى، بل ظل قطاع من الصناع والنقاد والمنظرين يرونه بعين متحفزة، متشككة، متوقعة إفساده للنقاء البصرى الذى تسيّد السينما الصامتة، حيث كان يعتقد كثيرون بأنها الحالة الأقرب للسينما الخالصة، فهى بلا دُخلاء أو وسائط مساعدة للتعبير، ولا أدلّ على ذلك من أن الفيلم كان يُسمى بالصورة المتحركةPicture  Motion فى إشارة على تأصيل مفهوم البصريات والصور بهذا الفن. 

يقول أسطورة السينما الصامتة باستر كيتون: "إن الصمت من شيم الآلهة، وحدها القردة هى من تثرثر"، ومن المُصرح به أيضاً من كيتون أن منافسة ودودة قد جمعته مع تشارلى تشابلن، فقد كانا يتسابقان حول أيّهما يستطيع تقديم فيلمه بأقل عدد ممكن من الشاشات السوداء التى يُكتب عليها أوصاف أو شروح أو حوارات كتقليد اتبعته السينما الصامتة، وهى إشارة أخرى على قوة النزعة البصرية التى سادت أوساط السينما فى هذا العصر.

تلك النزعة التى تزدرى الحوار تم توارثها عبر أجيال سينمائية مختلفة حتى بعد أفول السينما الصامتة، فنجد المخرج "جون فورد" يتحدث فى أحد حواراته قائلاً: "الفيلم يكون فى أفضل حالاته عندما يطول زمن الأفعال ويقل زمن الحوار، حين تحكى الأفلام قصصاً وتكشف عن شخصياتها من خلال سلسلة من الصور الحيوية الجميلة والبسيطة، حينها يكون الوسيط السينمائى قد تم الاستفادة منه لأقصى درجة." نفس النبرة موجودة فى أحد التصريحات المنسوبة إلى "ألفريد هيتشكوك" حيث يقول: "لو كان الفيلم جيداً، لأصبح من الممكن تعطيل الصوت وسيظل المتفرج على دراية مثالية بما يدور"

لم يختلف الموقف كثيراً عند النقاد والمُنظرين القدامى، من أرنهايم إلى ايزنشتاين إلى روثا إلى كراكور، فمن رافضين للصوت كلياً، إلى قابلين بكراهية، إلى متحمسين بحذر أو كما يشبههم المُنظر الفرنسى "كريستيان ميتز" فى كتابه "لغة الفيلم"، بأنهم مثل القوم الذين أرادوا دعوة موسيقار كبير على العشاء فاضطروا لدعوة زوجته الثرثارة معه، على أمل ضعيف بأللا تكون سلوكياتها الفظيعة على درجة كبيرة من الفظاعة!

تم التعبير عن ذلك الصراع بين البصرى والحوارى من خلال الأفلام نفسها، منذ تحفة بيلى وايلدر "سانسيت بوليفارد"، فهو يرصد حكاية مؤلف السينما الناطقة الذى يدخل فى حياة نجمة السينما الصامتة بعد أن غابت عنها الأضواء. وفى أحد المشاهد يسألها: "ألستِ نورما ديزموند؟ لقد كنتى فى الأفلام الصامتة؟ لقد كنتى عظيمة،" فتجيبه: "أنا لازلت عظيمة، الأفلام هى التى أصبحت ضئيلة!

 

تذهب الباحثة "سارة كوزلوف"، وهى من أقوى المدافعات عن الحوار فى السينما، فى كتابها "رواة لا مرئيون"، إلى أن ظاهرة ازدراء الحوار فى السينما تعود إلى خوف أنصارها من أن يتحول وسيطهم إلى مسرح مُعلّب canned theater، ثم تجادل حول مدى موضوعية هذا الهوس تجاه ما أسمته مُتهكمة بـ "النقاء الوسيطى"، وتفسره بأنه يعود لأساس سياسى وأيديولوجى متعلق بالدور المزعوم للسينما أن تلعبه، فهى فن الشعوب لا النخب، الفن القادر على التأثير فى الجموع (art of the masses)، والذى سيصلح العالم المتهاوى ويهذب رجل الشارع وينشر فكر الثورة الروسية بين الطبقات العاملة، ويذيب الفوارق بين الأمم بسيادة اللغة الإنسانية المشتركة بدلاً من اللغات المنطوقة المختلفة ...الخ

وهذا، بالطبع، لن يحدث حين تحاكى السينما المسرح الذى ينتمى للطبقات المثقفة والأريستقراطية، وهى تستطيع هضم الحوارات فكرياً، فالمسرح كان يمثل ما يطلق عليه أنصار فرويد "المرحلة المتقدمة من التفكير" والتى تتم عن طريق الوعى، بينما السينما الصامتة القائمة على الصور فتمثل "المرحلة الأولية من التفكير" التى لا تحتاج للوعى أو لقدرات ثقافية فكرية خارقة عند الفرد لأنها تتم عن طريق اللا وعى، حيث كل شىء معقول، مثل التفكير السحرى الحالم بعقول الأطفال.

وتعود كوزلوف فى كتابها التالى "التنصت على الحوار" فتقدم تفسير آخر شيّق لازدراء الحوار فى السينما؛ مُرجعة إياه، هذه المرة، لنزعة ذكورية ربطت سلوك الثرثرة بالمرأة ومن ثم احتقرت هذا السلوك وما ارتبط به. رغم أن دراسات علماء اللغويات (linguistics) نفت هذا الادعاء وأثبتت العكس، وهو أن الرجال هم الأكثر ثرثرة. ومن هنا تذهب كوزلوف إلى أن عداء الثرثرة النسائية ليس عداءً تجاه طبيعة المرأة بل الطبيعة التى لا ينشدها الرجال فى المرأة، وأسقطت تلك الفكرة على الوضع السينمائى من خلال المقولات التالية لهيتشكوك.

يقول الأخير: "إن أفلام التشويق مثل المرأة، كلما زاد ما تُرك للخيال، كلما زادت الإثارة" ... "إن عناوين الأفلام مثل النساء، يجب أن تكون سهلة التذكّر وليست مألوفة، خاطفة وليست واضحة" ... "المرأة الغامضة بها شيئ من النضج. أفعالها أقوى من الكلام. وكل امرأة يمكنها أن تصبح كذلك فقط عليها أن تترفّع وتصمت (grow up & shut up)."

لم تكتف كوزلوف بتفنيد الحجج من منظور سياسى ونفسى ونسوى كما وضحنا، لكنها زعمت أيضاً أن الحوار أضاف لفن السينما على عديد من المستويات، فهو مثلا ساهم بظهور جونرات جديدة من الأفلام مثل الأفلام الغنائية والاستعراضية وأعاد اكتشاف النصوص الروائية والمسرحية، إضافة للكوميديا الكلامية الاستعراضية أو ما يُعرف بمسرح الفودوفيل (vaudeville) الذى اشتهر بنقله للسينما الإخوة ماركس وفريد أستير. ظهور الحوار ساعد أيضاً فى إضفاء العمق والتعقيد على الشخصيات، عبرت عن ذلك الناقدة "بولين كايل" فى مقالها التاريخى عن فيلم "المواطن كين" بعنوان Raising Kane بقولها: "فى الأفلام الصامتة كان الأبطال هم البسطاء والسذج، بينما فى السينما الناطقة أصبحوا رجالاً لا يمكن خداعهم، أذكياء، يدرون ما يفعلون."

من جهة أخرى، يعتقد الفيلسوف الفرنسى "إتيون سوراو" بأن المنجزات التقنية لا يمكنها حل مشكلة داخل الفن، بل يمكنها فقط الإشارة للمشكلة كى يتمكن مُنجز آخر من حلها، وعلى الأرجح يكون مُنجز جمالى (فنى). ويقوم ميتز فى كتابه المذكور سلفاً بتطبيق نظرية سوراو على ظهور الصوت فى السينما كمنجز تقنى نتج عنه مشكلة (مزعومة) يمكن حلها أو ترويضها باللمسات الإبداعية نفسها، مُستشهداً بفيلم آلان رينيه "العام الأخير فى مارينباد"، حيث يقول: "الصورة لعبت مع النص لعبة "استغماية"، فقد أخذا بمداعبة بعضهما البعض. الجانبان متساويان: النص يُصبح صورة، والصورة تُصبح نصاً. هذا التفاعل بين السياقين يعطى السينما تركيبتها المميزة." مُضيفاً: "إن النطق فى أفلام رينيه وماركر وفاردا، حتى بنزعته الأدبية، أعطى ثقلاً عظيماً للتركيبة النهائية التى، وبرغم كل شىء، تتمتع بأصالة سينمائية لا مثيل لها."

يؤكد على ذلك، بطريقته، المُنظر السينمائى "تريفور وايتوك"  فى كتابه "الاستعارة فى لغة السينما" حيث يقول: "إن أبسط طريقة متاحة لتعريف الصورة السينمائية هى مطابقتها بكادر سينمائى واحد ... غير أن لمثل هذا التعريف أوجه قصور عديدة، فهو تعريف يجانبه الصواب من الناحية السيكولوجية. إننا عندما نشاهد فيلماً فإننا نتذوق حدثاً وحركة وصوتا لا كادراً سينمائياً. وعلينا أن نقبل إشارة اليد، أو رنين الهاتف كصور ... إننا فى حياتنا العادية نميز الأشياء بتلك الطريقة، مكونين صورا كلية من مجموعة من المعطيات الحسية ... لذا ينبغى علينا ونحن نناقش ظاهريات الصور السينمائية ألا نأخذ فى الاعتبار الظروف التى تعرض بها هذه الصور وحسب، بل نأخذ فى الاعتبار أيضاً النزوعات العقلية للمشاهدين، وهى التى تحدد الكيفية التى يستقبلون بها ما يشاهدونه".

لنتوقف قليلاً عند المشهد الأخير من فيلم "ذهب مع الريح"، حيث تتوسل فيفيان لى من كلارك جيبيل البقاء لأنها لا تعرف ماذا ستفعل فى غيابه، فيرد عليها بجملته الأيقونية: "صراحة عزيزتى، أنا لا أعطى بالاً" ثم يستدير بجسده مغادراً. "هذا الرد لم يكن مجرد تكرار أو وسيلة مساعدة صوتية تؤكد ما تعرضه الصورة"، تقول كوزلوف، وتتابع:"هذه الكلمات تشرح لماذا هو راحل، وتكشف عن درجة من الانتقام. إن المشهد بحركته بدون تلك الكلمات، بما تمزجه من أدب وأسى وغضب وتخلى، لم يكن ليقل تأثيره وحسب بل كان سيختلف معناه كُلية".

ماذا عن أفلام السويدى "إنجمار بيرجمان" الذى كان يطلق العنان لشخصياته بالكلام الفضفاض. ترك بيرجمان شخصياته تعبر بحرية عن خوائها النفسى وفزعها الوجودى فى مشاهد عديدة من أفلامه، وتواطأ معهم بخفت إضاءة تلك المشاهد ليفسح المجال لكلامهم بالتحول إلى صور حسية تُعيد رسم الشاشة المائلة للظلام مثلما يحدث فى ذلك المشهد الشهير فى "الختم السابع" حين يبكى ماكس فون سيدو من وراء ستار الكاهن الافتراضى رداً على عبثية الحياة وحقيقة الموت ووحدة الإنسان فى هذا الكون. أو حتى عبر حكاية جنسية فى "بيرسونا" تحكيها بيبى أندرسون بلسانها دون مساعدة بصرية فتنتج واحداً من أروع المشاهد الإيروسية فى تاريخ السينما بحسب قائمة أعدتها مجلة "تايم أوت"، ويعلق عليه الناقد الأميريكى روجر إيبيرت قائلاً: "لقد خلق هذا المونولوج صورة شديدة القوة، لدرجة أننى سمعت أناساً يصفون الحكاية وكأنهم شاهدوها فعلياً خلال الفيلم."

نستخلص من هنا وهناك أن الصوت ليس عنصراً دخيلاً أو وسيلة مساعدة كما ظنّ البعض، فهو يمكن أن يكون صورة بحد ذاته بحسب تريفور، ولأن الحوار هو أحد عناصر الصوت، نستخلص أن الحوار أيضاً يمكن أن يكون إحدى الصور الفيلمية بالمفهوم الذهنى والحسى لكلمة صورة بحسب ما أكده إيبيرت عن مشهد "بيرسونا"، وهذا ينقل الصراع من حلبة البصرى ضد الحوارى، إلى صراع آخر حول ماهية الجماليات التى نستطيع إضفائها على ما هو حوارى كى يتخطى كونه مجرد صورة فحسب ويكون صورة جمالية تضيف للحالة السينمائية. أو بكلمات أخرى: البحث عن ذلك المُنجز الجمالى الذى يستطيع ترويض التقنية بحسب سوراو وميتز. هذا المُنجز الجمالى هو ما نطلق عليه البلاغة فى الحوار السينمائى، لكن قبل أن نصل لتلك البلاغة ينبغى التوقف عند ماهية الحوار العادى قبل البليغ.

جميعنا يعرف ما هو الحوار، نحن نمارسه يومياً، وهذا ما يضعنا أمام سؤال حول علاقة هذا الشىء الذى نمارسه يومياً مع الحوار السينمائى. هل يجب، إذن، على الحوار السينمائى أن يكون واقعياً؟ لا يرى ذلك أغلب المنظرين، لكنهم فى نفس الوقت لا يرون أنه يجب أن يجافى الواقع. تقدم الكاتبة باربرا نيكولوسى، مؤلفة كتاب "ملاحظات حول كتابة السيناريو"، تعريفاً شيقاً للحوار السينمائى، فتقول: "حين تتشاجر مع صديق، بعدها بفترة تذهب لتأخذ حمّاماً، وتقوم أثناء الاستحمام بالشرود واسترجاع ما حدث فى ذهنك، ثم تقول لنفسك "كان ينبغى أن أقول هذا أو ذلك." هكذا يكون الحوار السينمائى، حين يمتلك الكاتب رد الفعل المثالى، ليستخلص الفيلم كل ما هو قوى ومُسلى فيصبح مثل الوليمة ... فالأفلام كما قال هيتشكوك لا يجب أن تكون قطعة من الواقع بل قطعة من التورتة." ويوافقها الكاتب جون تروبى فى هذا التعريف مُجملاً إياه فى كتابه "تشريح القصة"، بأن الحوار السينمائى هو حالة أكثر انتقائية للحديث، تبدو ممكنة التحقق فى الواقع. هذا عن الحوار السينمائى العادى، فماذا عن الحوار السينمائى البليغ؟

البلاغة فى تعريف أبى يعقوب السكّاكىّ هى: "بلوغ المتكلّم في تأدية المعاني حدّاً له اختصاص بتوفية خواصّ التّراكيب حقّها وإيراد أنواع التّشبيه والمجاز والكناية على وجهها"، والتعريف يكاد يتطابق مع تعريف قاموس أوكسفورد لمرادف الكلمة بالانجليزية rhetoric، فهى: "فن القول أو الكتابة الفعّال والمقنع، خاصة باستخدام أدوات الخطابة (المجاز، التشبيه، الكناية، التشخيص) أو تقنيات تركيبية أخرى"، لكن أكثر تعريفات البلاغة بلاغة هو تعريف ابن الأعرابىّ: "التّقريب من البغية ودلالة قليل على كثير"، وسبب تفوق الأخير أنه الأقل تقييداً بنوع الوسيط التعبيرى، بينما التعريفات الأخرى تفترض القول والكتابة على الوسائط التعبيرية التقليدية والأكثر قدماً، مثل الشعر والرواية والخطابة أو حتى المسرح؛ خاصة وأن أدوات الخطابة المذكورة ارتبطت بتلك الأنواع من التعبير ونشأت فى رحابها، مثل "التشبيه"، الذى تكاد تنعدم أهميته فى السينما مقارنة بالشعر مثلاً، لذلك حاول تعريف أوكسفورد تلافى هذا القصور فى جزئه الأخير بإضافة "تقنيات تركيبية أخرى"، لم يحددها.

وبعكس الشعر والمسرح والرواية التى يعتمد نصها/حوارها على المبالغة فى التصريح والوصف النثرى لأدق تفاصيل المشاعر والدواخل اعتماداً على قوة اللغة أو صخب الأداء، فالوسيط السينمائى يجعل من لغة حواره أكثر تعقيداً، فمثلاً ما يُعد مقبولاً أو جميلاً فوق صفحة بيضاء جرداء من الحسيات والمؤثرات والمرئيات كصفحة الرواية (لأن جمالياته نبعت أساساً من علاقة بين طبيعة الوسيط أو حدوده)، ليس دائماً مناسباً فى حال تلقيه على شاشة السينما؛ لأنها أقرب وسيط فنى يحاكى الواقع المكتظ بالحسيات والمؤثرات والمرئيات، كما انه من غير المُريح سماع البشر يجهرون بدواخلهم فى الواقع، ولأن طبيعة وهدف النص تختلف بحسب اختلاف الوسيط؛ لذا فبلاغة الحوار السينمائى يمكن أن تختلف أحياناً أو كثيراً عن مثيلتها فى الأدب.

وإذا كانت الوظيفة التقليدية للحوار فى السينما هى الحكى والكشف عن الشخصيات، فإن وظيفة بلاغة هذا الحوار يجب أن تتفوق على وظيفته التقليدية. لذا كان يجب أن تهتم هذه البلاغة بالعلاقة المُعقدة بين العقل الواعى والعقل الباطن، الوسيلتان اللتان يتلقى المتفرج بهما الأعمال وتتكون منها الشخصيات، مع إثارة حاسة الربط والاستنباط عند المتفرج، واختصار ما يمكن حكيه فى سطور عديدة، وتحفيز الحالة التى تنقلها الصورة دون وصفها مباشرة، كى تتصالح مع مبدأ السينما الأزلى وهو "أظهر ولا تقل"، وحينها يمكن أن يُداعب كلاهما الآخر، كما يقول ميتز، دون أن يقصيه تماماً.


الإيحاء Innuendo، واحد من أدوات البلاغة التى استخدمتها السينما منذ فجرها الناطق، وتعريفه ببساطة أن تقول الشخصية الشىء وتقصد به شيئاً آخراً، وهى بكامل إدراكها من ذلك. والمثال الكلاسيكى والأشهر يوجد بمشهد من فيلم "النوم الكبير" للمخرج هاورد هوكس. يدور المشهد داخل حانة ويجمع بين المحقق فيليب مارلو (همفرى بوجارت) والفتاة الثرية فيفيان رولتيدج (لورين باكال)، وقد صارت علاقتهما أقوى من ذى قبل ونشأت بينهما شرارة إعجاب بعد فصول من السجال والشد والجذب. يدور بينهما هنا تناظر حوارى موضوعه الظاهرى هو هواية البطل فى سباقات الخيول، والتالى هو جزء مقتطع من الحوار تبدأه فيفيان بعقد تخمين حول مستوى مارلو فى قيادة الخيول:
-----
- أرى أنك لا تحب أن يقيمك أحد، وتحب أن تكون فى المقدمة، ثم تأخذ قسطاً من الراحة خارج حلبة السباق، وتعود فى المقدمة حراً.
- وماذا عنكِ؟ هل تحبين أن يتم تقييمك؟
- لم أعثر على من يستطيع فعلها، هل من اقتراحات؟
- لا أستطيع أن أحكم إللا بعد رؤيتكِ على أرض الملعب، أنتِ تملكين لمسة رقى لكننى لا أعرف إلى أى مدى تستطيعين الذهاب.
- هذا يتوقف على من يجلس فوق السرج.
----- 
كانت هذه من أوائل وأنضج المحاولات فى تاريخ السينما لعقد مشهد حوارى قائم على الإيحاء، ويسهل بالطبع تتبع المعانى الجنسية به، فالمقدمة هى المبادرة بالدعوة لبدء علاقة، والعودة حراً ترمز للتعددية والخوف من القيود، وأرض الملعب هى الفراش، و"إلى أى مدى تستطيعين الذهاب" و"من يجلس فوق السرج" كلها جمل تعبر عن توقعات البطلين حول مستوى العلاقة أو المضاجعة.

فيلم "النوم الكبير" هو أحد علامات ما يُعرف بموجة الفيلم-نوار، وهى كما يصفها الناقد "جيمس ديفدسون"، موجة نشأت فى هوليوود مع الحرب العالمية الثانية، وقد كانت تلك الموجة انعكاساً لحالة الإحباط والقلق المرضى التى انتابت ذكور المجتمع بعد عودتهم من الحرب وإدراكهم أن هناك من حل محلهم على صعيد الوظائف والزيجات والعلاقات العاطفية والعائلية. وكانت الحوارات الإيحائية كالحوار السابق هى إحدى الأدوات الأسلوبية لتلك الموجة، مثلها مثل الإضاءة الخافتة والسوداوية وتيمات الغموض والتشويق، كل ذلك عَكَسَ حالة فقدان الثقة والارتباك التى انتابت المجتمع وقتها.

وكما ساهمت موجة الفيلم-نوار بأبعادها الاجتماعية والسياسية فى إثراء الحوار السينمائى، ساعدت أيضاً الشفرة الرقابية (Hays Code) التى سادت بين أفلام الستوديوهات الكبرى فى هوليوود فى نفس الفترة، تلك الشفرة التى وضعت محاذير حول مناقشة الأفلام لبعض الموضوعات التابوهية كالجنس والدين، وحضت على عدم استخدام أساليب لغوية فجة وبذيئة من التى تنتمى للغة الشارع الفعلية. فإذ بكُتاب الأفلام يلجئون إلى ابتكار طرق حوارية وإيحائية للتحايل على تلك القيود، ما جعلها تساهم هى الأخرى (دون قصد) فى إثراء أساليب الحوار وبلاغته.

هناك مشهد آخر من فيلم "النوم الكبير" يستقل فيه مارلو عربة تاكسى تقودها امرأة، وبعد أن تقوم تلك المرأة بإيصاله لوجهته تعطيه بطاقة تعريفية لها قائلة: "إن احتجتنى مجدداً يمكنك الاتصال على هذا الرقم"، فيسألها مارلو: "هل أنتِ متاحة بالنهار والليل؟" فترد السائقة: "أُفضل الليل، لأنى بالنهار أكون فى العمل." نفهم من هذا الحوار الإيحائى الظريف أن السائقة أرادت فقط مضاجعة مارلو، لا العمل لصالحه كما يبدو التصريح.

مع نهاية الخمسينيات، حين تراخت سطوة الشفرة الرقابية وتحررت منها هوليوود بالتدريج، كان لذلك أثر سلبى على الحوار السينمائى استمر حتى مطلع السبعينيات، رصدت كوزلوف هذا الأثر فى كتابها "التنصت على الحوار السينمائى" قائلة: "سادت الأساليب التصريحية المباشرة فى التعبير عن الأفكار التابوهية، ولغة الشارع السوقية، وزاد الإطناب والرغى، وأُهمل الخطاب المجازى...، وقل الاهتمام بالإيقاع، ولم تعد الأحاديث مصقولة أو مشغولة، واتسمت بمناخ ارتجالى ... والمثال الأبرز على هذه الحالة فيلم "وجوه" لجون كاسافيتس."

لكن هذا الهياج المزلزل نحو الطبيعية، كما تصفه كوزلوف، لم يستمر طويلاً، خاصة مع خفوت الموجة الفرنسية الجديدة التى على الأرجح كانت مصدر إلهام هوليوود بالنزعة الطبيعية للحوار، وعادت الحوارات تدريجياً إلى الطابع الفنى القديم. أذكر هنا مشهد من فيلم "الحب والموت" لوودى آلن فى منتصف السبعينات، فبعد أن ينتهى البطل "بوريس" من ممارسة الجنس مع عشيقته تُخبره أنه حبيب جيد، فيرد بوريس: "حسناً، ذلك لأننى أتدرب كثيراً عندما أكون وحيداً" .. وهو رد شديد الألفة مع المشهد السابق من فيلم "النوم الكبير" الذى سبقه بثلاثين عاماً، فعن طريق الإيحاء الظريف، أيضاً، يكشف آلن عن تاريخ الشخصية البائس مع الجنس وإدمانها العادة السرية، دون الفجاجة أو المباشرة فى التصريح. لكن لا نستطيع القول باندثار النزعة الطبيعية تماماً، فقد استمرت جنباً إلى جنب مع النزعة الفنية، يناوش كلاهما الآخر، حتى ظهر "كوينتن تارانتينو" فى تسعينيات القرن الماضى ليقوم بالتوفيق الأبرع بين النزعتين فى فيلمه Pulp Fiction، ويثبت أن حتى الحوار الطبيعى الخالص يُمكن أن ينتج عنه شىء عالى الفنية.


نعود إلى وظيفة الحوار التقليدية وهى الحكى أو تسريب معلومات عن الشخصيات والعالم الذى تدور به القصة. لو كان هذا التسريب مباشر فهى إشكالية هينة، أما الإشكالية الكبرى فهى عندما يتسم هذا التسريب باللا معقولية، وهذا يحدث حينما تُخبر شخصية الأخرى بمعلومة تعرفها بالفعل، فيكون الغرض الحقيقى هو إيصال المعلومة للمتفرج لا الشخصية المستمعة، هنا يخرق الكاتب المنطق لعجزه عن إيجاد طرق أكثر ابتكاراً لإيصال المعلومات.
  
ومثال شهير لهذا الخطأ يوجد بفيلم "الرجل الثانى" لعز الدين ذو الفقار، حيث يدور تناظر حوارى بين رشدى أباظة وسامية جمال فى بداية الفيلم يكشف عن تاريخ علاقتهما وطبيعتها الراهنة، يقذف فيه كلاهما الآخر بمعلومات قُتلت بحثاً بينهم، لا لشىء سوى أن يعرفها المتفرج، والتالى هو جزء مقتطع من ذلك الحوار تبدأه سامية جمال:
-----
-
إذا كنت حقيقى بتحبنى يا عصمت كنت اتجوزتنى.
- مئة مرة فهمتك إن وقتها الظروف مكانتش تسمح، مكانش معقول أبداً حفيد كاظم باشا يتجوز سكينة الفقى، ثم أنا عوضتك خليتك بقيتى سمرا، نار على علم، وبرضه عيّشتك معايا، ما اتخلتش عنك أبداً.

- أبداً! لدرجة إنك ما قبلتش إن بنتنا تتنسبلك، واضطر ديورز ينسبها لنفسه، ويزوّر فى شهادة الميلاد.
- وعمل كدا علشان مين؟ لولايا كنتى هتلاقى فين زوج صورى زيه، متحرر.
- ومديلك العذر إنك ما تكتبش عليا .. لو رجعت أزن عليك تانى تتجوزنى تصدرله أوامر ما يطلقنيش، مش كدا؟

-----
ما سبق لا يعنى أنه يجب توقف الحوار عن وظيفة الحكى والكشف عن المعلومات، ولكن كلما كان هذا الكشف مبتكراً ومنطقياً ومتناغم مع الحالة البصرية وليس مجرد سكب مجانى للمعلومات (كما يحدث فى المشهد السابق) كلما كان أفضل، يمكن أن يكون ذلك من خلال صراع، أو من خلال ذروة، أو من خلال دعابة، أو من خلال شخصية صفتها إعلامية مثل صحفى أو فيلسوف أو عالم، والأخيرة مثلا استغلت بفيلم
Interstellar لشرح النظرية النسبية.


ومن الطرق الناجعة أيضاً فى الكشف، هناك ما يُعرف بـ "الزلة الفرويدية"، وهى عندما يحدث خطأ فى وظائف العقل ينكسر على اثره الحائط العازل بين الوعى واللا وعى، فيتسرب ما يكنّه الشخص بعقله الباطن على لسانه رغماً عنه، وهى من طرق التحليل النفسى لفرويد، وسأسقطها على مثال من السينما المصرية أيضاً.

يجب الإشارة، أولاً، إلى أن السينما المصرية سينما أكثر ارتباطاً بفن الرواية، فمعظم الأفلام المصرية المهمة، منذ فجرها وحتى سبعينيات القرن الماضى، مأخوذة عن نصوص روائية، وهو ما انعكس على حوارات الأفلام، فقد خلت معظمها مما يمكن وصفه ببلاغة سينمائية، واستعاضت باستعارة البلاغة الأدبية للروايات المأخوذة عنها.

والمثال، الذى قد يبدو راديكاليا لكنه غاية فى الأهمية، من فيلم "الخيط الرفيع" المأخوذ عن رواية لإحسان عبد القدوس، حيث يدور حوار بين البطل والبطلة حول إشهار علاقتهم كالتالى:
-----
- الخالق بيدي ما بياخدش، يكفيه عبادة خلقه، وأنا بعبدِك.
- الخالق بيطلب من الناس انهم يعبدوه في الجهر وأنت بتعبدني في السر.

- العبادة في السر أخلص العبادات.
- العبادة مش خطيئة .. أنت بتعتبر حبك ليا خطيئة؟
- مش أنا، ده المجتمع .. مجتمع من الكافرين .. محدش مؤمن بيكي إلا أنا.
- خليك نبي وأنشر دعوتك.
- مقدرش أكون نبي.
- ومين قالك أني أقدر أكون إله

-----
لا شك فى روعة ذلك التناظر الحوارى من حيث المبدأ، وبالتحديد حين قراءته فى رواية أو قصة أو مسرحية، والحقيقة أنه بالفعل منسوخ مباشرة من رواية عبد القدوس، فقط قام السيناريست "يوسف فرنسيس" بجعل اللغة أكثر عامية من الفصحى التى بالرواية، لكنه لم يبذل أى مجهود لإضفاء أى بُعد سينمائى للحوار. يُمكن أيضاً قبوله كمنشور على مواقع التواصل الاجتماعى، ولاحظت له بالفعل انتشار ناجح على هذه المواقع، وهى من القرائن على إمكانية احتفاظه بقوته حتى مع عزله عن وسيطه السينمائى، وربما تلك هى المشكلة، أنه ضعيف الصلة بالسينما كوسيط أكثر حيوية.

مبدئياً هو ليس بإيحاء مثل النموذج الأسبق من فيلم "النوم الكبير"، لأن الموحى به هنا (وهو العلاقة غير الشرعية) معروف ومعلن فى سياق الفيلم وليس على المتفرج أن يستنبطه. إذن، فهو فقط حوار استعارى بشكل مُبالغ فيه، لا يكشف ما هو جديد عن الشخصيات، ويفتقد للمعقولية، كما لا تضيف بلاغته الأدبية شيئاً مع الوسيط السينمائى سوى إرباك المتفرج وجعله تائهاً فى رحلة ربط عبثية بين المشبه والمشبه به .. النص الجيد إذن ليس، بالضرورة، نصاً سينمائياً جيداً.

مع مطلع الثمانينيات لمعت أجيال من كُتاب السيناريو أكثر أصالة واستقلالاً عن الأدب، مثل فايز غالى، وبشير الديك، ورؤوف توفيق وانضم لهم محمود أبو زيد ورأفت الميهى فى نسختهما المتطورة، وصولاً إلى وحيد حامد، وسأركز مع الأخير لأنه النموذج الأكثر تعبيراً عن موضوع هذه الدراسة، فبالرغم من أن ترسيبات البلاغة الأدبية قد ظلت حاضرة بأعماله المبكرة، خاصة وأن أصول تلك الأعمال لم تكن سوى مسلسلات إذاعية، وهو وسيط كلامى بحت يختلف لدرجة كبيرة عن السينما، إلا أن حامد قد نجح فى التحرر من تلك السمة والتطور تدريجيا على مرّ تاريخه الإبداعى بصورة مثيرة للإعجاب.


 

وصل ذلك التطور لقمته بفيلم "الإرهاب والكباب - 1992". وأتوقف مع هذا الفيلم عند جملة على لسان المجند هلال (أشرف عبد الباقى)، عندما يخبره أحمد (عادل إمام) أن وظيفته (أى وظيفة هلال) هى خدمة الوطن، فيرد هلال: "لا .. أنا مش فى خدمة الوطن، أنا فى خدمة الباشا سيادة اللواء، وحرم الباشا سيادة اللواء، والعيال الباشاوات ولاد سيادة اللواء". الجملة السابقة، بجانب ما بها من نبرة كوميدية مُحببة، فهى أيضاً من الأمثلة شديدة النضج على كيفية الحكى بـ"الزلة الفرويدية" التى شرحناها.

ويكمن ذلك فى استخدام كلمة "الباشا" وتكرارها بمشتقاتها على مدار الجملة، وهى كلمة دالة على التوقير. رغم أن هلال الآن فى وضع قوة، يمسك فى يده مدفعاً، ويحتجز عديد من الرهائن، والدولة (بما فيها سيادة اللوا) خاضعة لطلباته، لكنه لا يستطيع التحرر من ترسيبات حالة العبودية التى خلّفتها (فى لاوعيه) تجربته مع التجنيد الإجبارى والعمل بالسخرة لمصالح أفراد، فهو رغم تحوله من شخص مهمش مستعبد إلى شخص ذى قوة وأهمية، إلا انه مازال يجلّ مَن استعبده (رغم غيابه عن المشهد)، وزوجة مَن استعبده (رغم ضعف صلة الاستعباد)، وأبناء من استعبده رغم أنه يعى كم هم حقراء، فهم "العيال"، لكنهم فى نفس الوقت "الباشاوات"! كل هذه التناقضات لخصت فيما لا يزيد عن ثلاث ثوانٍ ما يتم حكيه فى ثلاث صفحات، فى وصف ضخامة حالة العبودية وخلفية معاناة هذه الشخصية. كل ذلك عن طريق الزلة الفرويدية، أى حين تسرب ما بعقله الباطن عبر لسانه.

إن سمة الحوار العظيم كما يقول "جون تروبى" فى كتابه "تشريح القصة" هى أللا يكون مثل اللحن الموسيقى (خط عزف واحد)، بل مثل السيمفونية التى تحدث بين ثلاثة خطوط بالتوازى. والثلاثة خطوط هى القصة ويرمز لها باللحن، وقيم الشخصية ويرمز لها بالهارمونى خاصة حين تدخل فى سجال مع قيم شخصية أخرى، وأخيراً جمال التركيب ويرمز له بالـ
Leitmotif وهى اللزمة المميزة أو المذهب المتكرر الذى يجعلنا نتعلق بالسيمفونية. ذلك ينطبق كُلية على جملة "هلال"، فهى تحكى جزء من تاريخ قصته مع المعاناة وتدفع القصة للأمام (الخط الأول- اللحن)، كما تكشف عن قيم الشخصية الآبية الواعية رغم الانكسار (الخط الثانى - الهارمونى)، وأخيراً فلها رنة موسيقية ومفارقة تركيبية مضحكة (الخط الثالث - التركيب)، لذا فهى من الجُمل الحوارية العظيمة وفق نظرية تروبى.



نصل أخيراً لأداة "ما وراء النص" أو Subtext، والتى تتشابه مع الإيحاء، فالمصرح به غير المقصود، لكن الفرق أن الشخصية لا تدرك المقصود دائماً، فعلاقة الوعى باللاوعى هنا مرنة، يعرفها صانع العمل ويحاول توجيه المتفرج لفهمها، لكن الشخصيات المتحدثة لا تدركها إدراكاً كلّياً. يُقدم لها روبرت مِكى تعريفاً بطريقته فى كتابه "القصة" قائلاً: "عندما لا يكون المشهد عمّا يبدو أنه عنه، هناك نص فرعى، حياة داخلية تتناقض أو تتعارض مع النص .. إن حقيقة الشىء ليست كما يبدو. يتطلب هذا المبدأ من كاتب السيناريو عناية بازدواجية الحياة، واعترافاً بأن كل شىء يوجد على مستويين. أولاً، يجب أن يبتكر وصفا لفظيا لسطح الحياة المحسوس. ثانيا، يجب أن يبتكر العالم الداخلى للرغبة الواعية وللا واعية، وفعلاً ورد فعل، نبضاً وهوية، وضرورات وراثية وتجريبية. يجب عليه أن يحجب الحقيقة بقناع حى بالأفكار والمشاعر الحقيقية للشخصيات وراء ما يقولون ويفعلون."

وقد قام "وودى آلن" بصنع المثال الأشهر فى تاريخ السينما لبلاغة ما وراء النص، وهذا من خلال مشهد الشُرفة من فيلم "آنى هول"، حيث يحتوى ذلك المشهد على ترجمة انجليزية لما يقوله الأبطال بالانجليزية أيضاً، تعمل الترجمة على شرح دوافعهم الحقيقية وراء كل جملة، فمثلاً حين يخبر آلفى آنى بأن لوحاتها تعجبه تظهر على الشاشة ترجمة لكلامه بفحوى مختلف عما يُقال مثل: "أنتِ فتاة جميلة، تُرى كيف تبدين عارية!"، ويستمر الحوار بينهما على هذا المنوال، فالحوار يحوى ما يكمن بالوعى وهو أن ألفى يمتدح ذوق وشخصية آنى، بينما الترجمة توضح ما باللا وعى وهو أنه لا يهمه سوى النوم معها. ويُعد هذا المثال الأهم والأوضح لأن رب العمل قرر تقديم شرح خارجى له بهدف كوميدى.


وإذا كان المشهد السابق يُعبر عن حديث مِكى حول الأقنعة التى يتلبسها البشر تلقائياً فى الحياة، مهما كانت درجة إخلاصهم، إلا أن مِكى يعود ليضيف سبباً جديداً لتلك الأداة وهو أن مشاعرنا العميقة تخدعنا مهما حاولنا إظهارها. "نحن لا نعبِّر أبداً بشكل كامل عن الحقيقة لأننا نادراً ما نعرفها." ويأخذنى ما قاله مِكى لمشهد آخر من "آنى هول"، فى ذلك المشهد شديد الرومانسية تسأل آنى "هل تحبنى؟"، فيجيبها آلفى: "الحب كلمة ضعيفة جدا مقارنة بما أشعر،" ويتابع: 
"I Lurve you
.. I Loave you
.. I Luff you
with double Fs
."
لاحظ هنا أنه لم يضف شيئاً فعلياً على كلمة الحب العادية
(Love)، فقط أخذ يجعل حروفها أكثر غلظة وقوة فيما يخص الرنة الصوتية للكلمة، لكنه لم يضف معنى جديد فيما يخص الشعور تنفيذاً لوعده ببداية الجملة، ورغم هذه اللجلجة والإفلاس الكلامى وخلوه من بلاغة شعرية أدبية مثل التى كانت فى مشهد "الخيط الرفيع"، إلا أننا لم نشك للحظة فى قوة وصدق مشاعره فى ذلك الموقف، بل العكس، فما بداخله، حقاً، قوى لدرجة أنه لا يستطيع وصفه بكلام مُنمق ومُعد بعناية، لأننا وكما قال مِكى نعجز عن معرفة ما يدور بداخلنا معرفة حقيقية، وهنا فانعدام البلاغة كان هو البلاغة بعينها.


ما قاله مِكى ينطبق بشكل أكثر فلسفية على مشهد من فيلم "جيلدا" للمخرج تشارلس فايدور، وهو ينتمى لفئة الفيلم-نوار. فى هذا المشهد تعبر البطلة والبطل عن كرههما الظاهر فى علاقتهما الشائكة المضطربة طوال الفيلم، والتى تخفى وراءها شغفا وشبقا وهوسا رهيب، تخطى فى قوته شعور الحب نفسه. والغريب أنهما بعد تبادل كلمات الكُره والاحتقار يقومان بالعناق والانهماك فى قُبلات شديدة السخونة تطبعها وتتلقاها جيلدا وهى مازالت تغمغم حول كرهها المُميت لجونى، فى تناقض صارخ بين الفعل والقول تأكيداً على ما ورائية النص. 

هناك مقولة للروائى "إلى فيزيل" تقول: "نقيض الحب ليس الكُره، وإنما اللا مبالاة." وهى جُملة بليغة أدبياً، وراءها معنى عميق، ويمكن تقبلها بإعجاب وانبهار على صفحة بيضاء جرداء من الحسيات والمرئيات والمؤثرات كصفحة الرواية، لكنها قد لا تعنى شيئاً لو تم التصريح بها كما هى داخل فيلم. والتعبير السينمائى الأبلغ عن نفس المعنى هو ما تمّ فى مشهد "جيلدا"، التناقض بين النص والصورة، التصريح بالكُره مع ممارسة فعل الحب، كى نصل من ورائية النص لمعنى فيزيل العميق، فالكره فعلا ليس نقيضاً للحب، بل شكلاً آخراً منه، يُمكن أن يكون أكثر سخونة، هذا المعنى يُمكن التنظير له لكنه أكثر تعقيداً من أن تفهمه الشخصيات، لذا فما ورائية النص نجحت فى التعبير عن هذا المعنى المُعقد من خلال هذا التناقض الظاهرى المُلهب للفكر والحواس، والذى يضيف للصورة معنى وجاذبية.


يمكن للتناقض ما وراء النصى أن يأخذ أشكالاً أكثر تركيباً من نموذج "جيلدا". وهذا ما فعله الكاتب "تشارلى كوفمان" فى فيلمه "اقتباس" وتحديداً فى المشهد الذى يذهب بطله إلى محاضرة تعليم كتابة السيناريو التى يلقيها "روبرت مِكى"، بعد أن فشلت كل محاولات الأول فى تحويل كتاب وثائقى عن زهور الأوركيد إلى فيلم روائى. نجد البطل جالساً فى صمت مع باقى الحضور ولكننا نسمع ما يدور بخُلده عبر أسلوب الراوى voice-over، فهو يُعبر عن هواجسه واحباطاته الشخصية والمهنية وكبريائه الفنى المجروح بتلك الطريقة:

"إنني بائس مثير للشفقة إنني فاشل لقد فشلت. إنني هلع لقد انتهت صلاحيتي.  إنني عديم النفع، إنني ... اللعنة ماذا أفعل هنا؟ ما أوصلني إلى هنا هو ضعفي، وافتقاري اللامحدود للإقناع، البحث عن أجوبة سهلة، تلك القواعد المتبعة لتختصر الطريق إلى السعادة، وأنا هنا لأن رحلتي إلى الهاوية لم تجلب لي أي شيء، أليست مجرد مخاطرة ومحاولة البحث عن شيء جديد؟ عليّ المغادرة الآن. سأبدأ من جديد .. عليّ مواجهة هذا الأمر بشكل مباشر."

ما يجعل المونولوج السابق عبقرياً ليس النص نفسه بما يحتويه من نزعة نفسية وروائية عميقة، بل لأنه ينتهى على صوت قطع من المُحاضر "مِكى" وهو يوجه حديثه للحضور قائلاً: "وحذارى يا بُنى، أن تستخدم أسلوب الراوى voice over، إنها طريقة ضحلة وهشة، أى أحمق يمكنه استخدام هذه الطريقة لشرح أفكار شخصياته." من هذا التناقض نفهم أن مونولوج البطل السابق لم يكن سوى نصاً سطحياً يكمن وراءه نص آخر، فالبطل فاشل وبائس بالفعل، لكن ليس لأنه يصرح بأنه فاشل كما نسمع بالنص السطحى، بل لأنه يصرح عن هذا الفشل بطريقة فاشلة (أسلوب الراوىوهذا كان ما وراء النص.


ولا تتوقف البلاغة فى هذا المشهد عند هذا الحد، بل تمتد لتكون أداة تفكيك للنص من الداخل، من أجل توجيه صفعة لقواعد مِكى، فما ورائية النص التى شرحنا جمالياتها لا تنفى أن النص اخترق قاعدة "عدم استخدام أسلوب الراوى"، فهو استخدمه بالفعل، لكن ما نتج عن هذا الاستخدام شىء بديع، يؤكد أنه لا قواعد صارمة فى الفن، بل مجرد مقاصد، لا توجد وسيلة لبلوغها أحياناً سوى باختراق القواعد المزعومة، فهدمها، فالبناء عليها.

ومثل التناقض، والأقنعة، وتعقيد الدواخل، يُمكن أن تُستخدم أداة ما وراء النص للتمهيد الدرامى. ففى مشهد من الفيلم الفرنسى "الأزرق أكثر الألوان دفئاً" توجه إيما سؤالاً إلى أديل حول مادتها الدراسية المفضلة، فترد أديل: "الأمر يعتمد على مُعلم المادة، فلو أعجبنى أسلوبه سوف أشعر بشغف نحو مادته، وستكون هى مادتى المفضلة"، من الممكن أن يكون هذا الحوار عادياً فى أى سياق آخر إللا سياق هذا المشهد الذى يحوى مرحلة بداية الانسجام بين الفتاتين بعد شرارة الانجذاب الأولى بلقائهن فى الشارع، وتهييئاً للرابطة الجنسية القادمة، فإجابة أديل التى تنفى تفضيلاتها المسبقة فيما هو دراسى، يسهل إسقاطها على تفضيلاتها المسبقة فيما هو جنسى، أى أن الجملة تورية على ثنائيتها الجنسية bisexuality، فهى لا تفضل الرجال أو النساء بقدر ما يهمها الشخص الذى ستنام معه أياً كان جنسه، وهو ما شاهدناه بالفعل خلال أحداث الفيلم، لذا فالجملة تعد من نماذج التورية النصية التى تُعرفنا على شخصية بلا توجهات ويسهل وقوعها

وختاماً، ربما أغفلت هذه الدراسة بعض الجوانب الهامة، مثل أداء المُمثل وكيف ينتقص أو يضيف أحياناً لبلاغة ما يقوله، بالإضافة لإمكانية اختلاف ما هو بليغ مع اختلاف الأنواع الفيلمية. فالحوار السينمائى سيظل من المباحث الهامة التى يشوبها الجدل والغموض، وكلّما استوعبنا كيف يعمل كلما ساعدنا ذلك، ليس فى فهم السينما والاستفادة بوسيطها الفنى إلى أقصى درجة وحسب، بل وأيضاً فى فهم كيف يعمل البشر أنفسهم، لقد تخطى دور الحوار السينمائى تقليد الواقع وأصبح هو ذاته قِبلة تقليد للبشر، يتعلمون منه كيف يتحدثون، وتفوقت مقولات الأبطال الشعبيين فى السينما على مقولات الفلاسفة والعلماء ورجال الدين فى نسبة تأثيرها وانتشارها. أنت لا تحتاج لخبرة تزيد عن دقائق على مواقع التواصل الاجتماعى لتدرك إلى أى مدى أصبح البشر يتناولون الأخبار والظواهر والأحداث الجارية وكل شىء بردود جاهزة مُستمدة من المقولات السينمائية الشهيرة، إننا نعيش عصراً أصبحت تتحدث فيه السينما نيابة عن البشر، وهو سبب آخر لمحاولة فهم كيف تتحدث ... وكيف يجب أن تتحدث.


بقلم أمجد جمال

عن البلاغة فى الحوار السينمائي

كتب Amgad Gamal  |  نشر في :  2:44 م 3 تعليقات

 
 مع أواخر العقد الثالث من القرن الماضى، عندما ظهر الحوار الصوتى بالأفلام بعد سنوات من السينما الصامتة، لم تقتصر النظرة له كفتح تقنى سيعود على هذا الفن بما هو إيجابى، بل ظل قطاع من الصناع والنقاد والمنظرين يرونه بعين متحفزة، متشككة، متوقعة إفساده للنقاء البصرى الذى تسيّد السينما الصامتة، حيث كان يعتقد كثيرون بأنها الحالة الأقرب للسينما الخالصة، فهى بلا دُخلاء أو وسائط مساعدة للتعبير، ولا أدلّ على ذلك من أن الفيلم كان يُسمى بالصورة المتحركةPicture  Motion فى إشارة على تأصيل مفهوم البصريات والصور بهذا الفن. 

يقول أسطورة السينما الصامتة باستر كيتون: "إن الصمت من شيم الآلهة، وحدها القردة هى من تثرثر"، ومن المُصرح به أيضاً من كيتون أن منافسة ودودة قد جمعته مع تشارلى تشابلن، فقد كانا يتسابقان حول أيّهما يستطيع تقديم فيلمه بأقل عدد ممكن من الشاشات السوداء التى يُكتب عليها أوصاف أو شروح أو حوارات كتقليد اتبعته السينما الصامتة، وهى إشارة أخرى على قوة النزعة البصرية التى سادت أوساط السينما فى هذا العصر.

تلك النزعة التى تزدرى الحوار تم توارثها عبر أجيال سينمائية مختلفة حتى بعد أفول السينما الصامتة، فنجد المخرج "جون فورد" يتحدث فى أحد حواراته قائلاً: "الفيلم يكون فى أفضل حالاته عندما يطول زمن الأفعال ويقل زمن الحوار، حين تحكى الأفلام قصصاً وتكشف عن شخصياتها من خلال سلسلة من الصور الحيوية الجميلة والبسيطة، حينها يكون الوسيط السينمائى قد تم الاستفادة منه لأقصى درجة." نفس النبرة موجودة فى أحد التصريحات المنسوبة إلى "ألفريد هيتشكوك" حيث يقول: "لو كان الفيلم جيداً، لأصبح من الممكن تعطيل الصوت وسيظل المتفرج على دراية مثالية بما يدور"

لم يختلف الموقف كثيراً عند النقاد والمُنظرين القدامى، من أرنهايم إلى ايزنشتاين إلى روثا إلى كراكور، فمن رافضين للصوت كلياً، إلى قابلين بكراهية، إلى متحمسين بحذر أو كما يشبههم المُنظر الفرنسى "كريستيان ميتز" فى كتابه "لغة الفيلم"، بأنهم مثل القوم الذين أرادوا دعوة موسيقار كبير على العشاء فاضطروا لدعوة زوجته الثرثارة معه، على أمل ضعيف بأللا تكون سلوكياتها الفظيعة على درجة كبيرة من الفظاعة!

تم التعبير عن ذلك الصراع بين البصرى والحوارى من خلال الأفلام نفسها، منذ تحفة بيلى وايلدر "سانسيت بوليفارد"، فهو يرصد حكاية مؤلف السينما الناطقة الذى يدخل فى حياة نجمة السينما الصامتة بعد أن غابت عنها الأضواء. وفى أحد المشاهد يسألها: "ألستِ نورما ديزموند؟ لقد كنتى فى الأفلام الصامتة؟ لقد كنتى عظيمة،" فتجيبه: "أنا لازلت عظيمة، الأفلام هى التى أصبحت ضئيلة!

 

تذهب الباحثة "سارة كوزلوف"، وهى من أقوى المدافعات عن الحوار فى السينما، فى كتابها "رواة لا مرئيون"، إلى أن ظاهرة ازدراء الحوار فى السينما تعود إلى خوف أنصارها من أن يتحول وسيطهم إلى مسرح مُعلّب canned theater، ثم تجادل حول مدى موضوعية هذا الهوس تجاه ما أسمته مُتهكمة بـ "النقاء الوسيطى"، وتفسره بأنه يعود لأساس سياسى وأيديولوجى متعلق بالدور المزعوم للسينما أن تلعبه، فهى فن الشعوب لا النخب، الفن القادر على التأثير فى الجموع (art of the masses)، والذى سيصلح العالم المتهاوى ويهذب رجل الشارع وينشر فكر الثورة الروسية بين الطبقات العاملة، ويذيب الفوارق بين الأمم بسيادة اللغة الإنسانية المشتركة بدلاً من اللغات المنطوقة المختلفة ...الخ

وهذا، بالطبع، لن يحدث حين تحاكى السينما المسرح الذى ينتمى للطبقات المثقفة والأريستقراطية، وهى تستطيع هضم الحوارات فكرياً، فالمسرح كان يمثل ما يطلق عليه أنصار فرويد "المرحلة المتقدمة من التفكير" والتى تتم عن طريق الوعى، بينما السينما الصامتة القائمة على الصور فتمثل "المرحلة الأولية من التفكير" التى لا تحتاج للوعى أو لقدرات ثقافية فكرية خارقة عند الفرد لأنها تتم عن طريق اللا وعى، حيث كل شىء معقول، مثل التفكير السحرى الحالم بعقول الأطفال.

وتعود كوزلوف فى كتابها التالى "التنصت على الحوار" فتقدم تفسير آخر شيّق لازدراء الحوار فى السينما؛ مُرجعة إياه، هذه المرة، لنزعة ذكورية ربطت سلوك الثرثرة بالمرأة ومن ثم احتقرت هذا السلوك وما ارتبط به. رغم أن دراسات علماء اللغويات (linguistics) نفت هذا الادعاء وأثبتت العكس، وهو أن الرجال هم الأكثر ثرثرة. ومن هنا تذهب كوزلوف إلى أن عداء الثرثرة النسائية ليس عداءً تجاه طبيعة المرأة بل الطبيعة التى لا ينشدها الرجال فى المرأة، وأسقطت تلك الفكرة على الوضع السينمائى من خلال المقولات التالية لهيتشكوك.

يقول الأخير: "إن أفلام التشويق مثل المرأة، كلما زاد ما تُرك للخيال، كلما زادت الإثارة" ... "إن عناوين الأفلام مثل النساء، يجب أن تكون سهلة التذكّر وليست مألوفة، خاطفة وليست واضحة" ... "المرأة الغامضة بها شيئ من النضج. أفعالها أقوى من الكلام. وكل امرأة يمكنها أن تصبح كذلك فقط عليها أن تترفّع وتصمت (grow up & shut up)."

لم تكتف كوزلوف بتفنيد الحجج من منظور سياسى ونفسى ونسوى كما وضحنا، لكنها زعمت أيضاً أن الحوار أضاف لفن السينما على عديد من المستويات، فهو مثلا ساهم بظهور جونرات جديدة من الأفلام مثل الأفلام الغنائية والاستعراضية وأعاد اكتشاف النصوص الروائية والمسرحية، إضافة للكوميديا الكلامية الاستعراضية أو ما يُعرف بمسرح الفودوفيل (vaudeville) الذى اشتهر بنقله للسينما الإخوة ماركس وفريد أستير. ظهور الحوار ساعد أيضاً فى إضفاء العمق والتعقيد على الشخصيات، عبرت عن ذلك الناقدة "بولين كايل" فى مقالها التاريخى عن فيلم "المواطن كين" بعنوان Raising Kane بقولها: "فى الأفلام الصامتة كان الأبطال هم البسطاء والسذج، بينما فى السينما الناطقة أصبحوا رجالاً لا يمكن خداعهم، أذكياء، يدرون ما يفعلون."

من جهة أخرى، يعتقد الفيلسوف الفرنسى "إتيون سوراو" بأن المنجزات التقنية لا يمكنها حل مشكلة داخل الفن، بل يمكنها فقط الإشارة للمشكلة كى يتمكن مُنجز آخر من حلها، وعلى الأرجح يكون مُنجز جمالى (فنى). ويقوم ميتز فى كتابه المذكور سلفاً بتطبيق نظرية سوراو على ظهور الصوت فى السينما كمنجز تقنى نتج عنه مشكلة (مزعومة) يمكن حلها أو ترويضها باللمسات الإبداعية نفسها، مُستشهداً بفيلم آلان رينيه "العام الأخير فى مارينباد"، حيث يقول: "الصورة لعبت مع النص لعبة "استغماية"، فقد أخذا بمداعبة بعضهما البعض. الجانبان متساويان: النص يُصبح صورة، والصورة تُصبح نصاً. هذا التفاعل بين السياقين يعطى السينما تركيبتها المميزة." مُضيفاً: "إن النطق فى أفلام رينيه وماركر وفاردا، حتى بنزعته الأدبية، أعطى ثقلاً عظيماً للتركيبة النهائية التى، وبرغم كل شىء، تتمتع بأصالة سينمائية لا مثيل لها."

يؤكد على ذلك، بطريقته، المُنظر السينمائى "تريفور وايتوك"  فى كتابه "الاستعارة فى لغة السينما" حيث يقول: "إن أبسط طريقة متاحة لتعريف الصورة السينمائية هى مطابقتها بكادر سينمائى واحد ... غير أن لمثل هذا التعريف أوجه قصور عديدة، فهو تعريف يجانبه الصواب من الناحية السيكولوجية. إننا عندما نشاهد فيلماً فإننا نتذوق حدثاً وحركة وصوتا لا كادراً سينمائياً. وعلينا أن نقبل إشارة اليد، أو رنين الهاتف كصور ... إننا فى حياتنا العادية نميز الأشياء بتلك الطريقة، مكونين صورا كلية من مجموعة من المعطيات الحسية ... لذا ينبغى علينا ونحن نناقش ظاهريات الصور السينمائية ألا نأخذ فى الاعتبار الظروف التى تعرض بها هذه الصور وحسب، بل نأخذ فى الاعتبار أيضاً النزوعات العقلية للمشاهدين، وهى التى تحدد الكيفية التى يستقبلون بها ما يشاهدونه".

لنتوقف قليلاً عند المشهد الأخير من فيلم "ذهب مع الريح"، حيث تتوسل فيفيان لى من كلارك جيبيل البقاء لأنها لا تعرف ماذا ستفعل فى غيابه، فيرد عليها بجملته الأيقونية: "صراحة عزيزتى، أنا لا أعطى بالاً" ثم يستدير بجسده مغادراً. "هذا الرد لم يكن مجرد تكرار أو وسيلة مساعدة صوتية تؤكد ما تعرضه الصورة"، تقول كوزلوف، وتتابع:"هذه الكلمات تشرح لماذا هو راحل، وتكشف عن درجة من الانتقام. إن المشهد بحركته بدون تلك الكلمات، بما تمزجه من أدب وأسى وغضب وتخلى، لم يكن ليقل تأثيره وحسب بل كان سيختلف معناه كُلية".

ماذا عن أفلام السويدى "إنجمار بيرجمان" الذى كان يطلق العنان لشخصياته بالكلام الفضفاض. ترك بيرجمان شخصياته تعبر بحرية عن خوائها النفسى وفزعها الوجودى فى مشاهد عديدة من أفلامه، وتواطأ معهم بخفت إضاءة تلك المشاهد ليفسح المجال لكلامهم بالتحول إلى صور حسية تُعيد رسم الشاشة المائلة للظلام مثلما يحدث فى ذلك المشهد الشهير فى "الختم السابع" حين يبكى ماكس فون سيدو من وراء ستار الكاهن الافتراضى رداً على عبثية الحياة وحقيقة الموت ووحدة الإنسان فى هذا الكون. أو حتى عبر حكاية جنسية فى "بيرسونا" تحكيها بيبى أندرسون بلسانها دون مساعدة بصرية فتنتج واحداً من أروع المشاهد الإيروسية فى تاريخ السينما بحسب قائمة أعدتها مجلة "تايم أوت"، ويعلق عليه الناقد الأميريكى روجر إيبيرت قائلاً: "لقد خلق هذا المونولوج صورة شديدة القوة، لدرجة أننى سمعت أناساً يصفون الحكاية وكأنهم شاهدوها فعلياً خلال الفيلم."

نستخلص من هنا وهناك أن الصوت ليس عنصراً دخيلاً أو وسيلة مساعدة كما ظنّ البعض، فهو يمكن أن يكون صورة بحد ذاته بحسب تريفور، ولأن الحوار هو أحد عناصر الصوت، نستخلص أن الحوار أيضاً يمكن أن يكون إحدى الصور الفيلمية بالمفهوم الذهنى والحسى لكلمة صورة بحسب ما أكده إيبيرت عن مشهد "بيرسونا"، وهذا ينقل الصراع من حلبة البصرى ضد الحوارى، إلى صراع آخر حول ماهية الجماليات التى نستطيع إضفائها على ما هو حوارى كى يتخطى كونه مجرد صورة فحسب ويكون صورة جمالية تضيف للحالة السينمائية. أو بكلمات أخرى: البحث عن ذلك المُنجز الجمالى الذى يستطيع ترويض التقنية بحسب سوراو وميتز. هذا المُنجز الجمالى هو ما نطلق عليه البلاغة فى الحوار السينمائى، لكن قبل أن نصل لتلك البلاغة ينبغى التوقف عند ماهية الحوار العادى قبل البليغ.

جميعنا يعرف ما هو الحوار، نحن نمارسه يومياً، وهذا ما يضعنا أمام سؤال حول علاقة هذا الشىء الذى نمارسه يومياً مع الحوار السينمائى. هل يجب، إذن، على الحوار السينمائى أن يكون واقعياً؟ لا يرى ذلك أغلب المنظرين، لكنهم فى نفس الوقت لا يرون أنه يجب أن يجافى الواقع. تقدم الكاتبة باربرا نيكولوسى، مؤلفة كتاب "ملاحظات حول كتابة السيناريو"، تعريفاً شيقاً للحوار السينمائى، فتقول: "حين تتشاجر مع صديق، بعدها بفترة تذهب لتأخذ حمّاماً، وتقوم أثناء الاستحمام بالشرود واسترجاع ما حدث فى ذهنك، ثم تقول لنفسك "كان ينبغى أن أقول هذا أو ذلك." هكذا يكون الحوار السينمائى، حين يمتلك الكاتب رد الفعل المثالى، ليستخلص الفيلم كل ما هو قوى ومُسلى فيصبح مثل الوليمة ... فالأفلام كما قال هيتشكوك لا يجب أن تكون قطعة من الواقع بل قطعة من التورتة." ويوافقها الكاتب جون تروبى فى هذا التعريف مُجملاً إياه فى كتابه "تشريح القصة"، بأن الحوار السينمائى هو حالة أكثر انتقائية للحديث، تبدو ممكنة التحقق فى الواقع. هذا عن الحوار السينمائى العادى، فماذا عن الحوار السينمائى البليغ؟

البلاغة فى تعريف أبى يعقوب السكّاكىّ هى: "بلوغ المتكلّم في تأدية المعاني حدّاً له اختصاص بتوفية خواصّ التّراكيب حقّها وإيراد أنواع التّشبيه والمجاز والكناية على وجهها"، والتعريف يكاد يتطابق مع تعريف قاموس أوكسفورد لمرادف الكلمة بالانجليزية rhetoric، فهى: "فن القول أو الكتابة الفعّال والمقنع، خاصة باستخدام أدوات الخطابة (المجاز، التشبيه، الكناية، التشخيص) أو تقنيات تركيبية أخرى"، لكن أكثر تعريفات البلاغة بلاغة هو تعريف ابن الأعرابىّ: "التّقريب من البغية ودلالة قليل على كثير"، وسبب تفوق الأخير أنه الأقل تقييداً بنوع الوسيط التعبيرى، بينما التعريفات الأخرى تفترض القول والكتابة على الوسائط التعبيرية التقليدية والأكثر قدماً، مثل الشعر والرواية والخطابة أو حتى المسرح؛ خاصة وأن أدوات الخطابة المذكورة ارتبطت بتلك الأنواع من التعبير ونشأت فى رحابها، مثل "التشبيه"، الذى تكاد تنعدم أهميته فى السينما مقارنة بالشعر مثلاً، لذلك حاول تعريف أوكسفورد تلافى هذا القصور فى جزئه الأخير بإضافة "تقنيات تركيبية أخرى"، لم يحددها.

وبعكس الشعر والمسرح والرواية التى يعتمد نصها/حوارها على المبالغة فى التصريح والوصف النثرى لأدق تفاصيل المشاعر والدواخل اعتماداً على قوة اللغة أو صخب الأداء، فالوسيط السينمائى يجعل من لغة حواره أكثر تعقيداً، فمثلاً ما يُعد مقبولاً أو جميلاً فوق صفحة بيضاء جرداء من الحسيات والمؤثرات والمرئيات كصفحة الرواية (لأن جمالياته نبعت أساساً من علاقة بين طبيعة الوسيط أو حدوده)، ليس دائماً مناسباً فى حال تلقيه على شاشة السينما؛ لأنها أقرب وسيط فنى يحاكى الواقع المكتظ بالحسيات والمؤثرات والمرئيات، كما انه من غير المُريح سماع البشر يجهرون بدواخلهم فى الواقع، ولأن طبيعة وهدف النص تختلف بحسب اختلاف الوسيط؛ لذا فبلاغة الحوار السينمائى يمكن أن تختلف أحياناً أو كثيراً عن مثيلتها فى الأدب.

وإذا كانت الوظيفة التقليدية للحوار فى السينما هى الحكى والكشف عن الشخصيات، فإن وظيفة بلاغة هذا الحوار يجب أن تتفوق على وظيفته التقليدية. لذا كان يجب أن تهتم هذه البلاغة بالعلاقة المُعقدة بين العقل الواعى والعقل الباطن، الوسيلتان اللتان يتلقى المتفرج بهما الأعمال وتتكون منها الشخصيات، مع إثارة حاسة الربط والاستنباط عند المتفرج، واختصار ما يمكن حكيه فى سطور عديدة، وتحفيز الحالة التى تنقلها الصورة دون وصفها مباشرة، كى تتصالح مع مبدأ السينما الأزلى وهو "أظهر ولا تقل"، وحينها يمكن أن يُداعب كلاهما الآخر، كما يقول ميتز، دون أن يقصيه تماماً.


الإيحاء Innuendo، واحد من أدوات البلاغة التى استخدمتها السينما منذ فجرها الناطق، وتعريفه ببساطة أن تقول الشخصية الشىء وتقصد به شيئاً آخراً، وهى بكامل إدراكها من ذلك. والمثال الكلاسيكى والأشهر يوجد بمشهد من فيلم "النوم الكبير" للمخرج هاورد هوكس. يدور المشهد داخل حانة ويجمع بين المحقق فيليب مارلو (همفرى بوجارت) والفتاة الثرية فيفيان رولتيدج (لورين باكال)، وقد صارت علاقتهما أقوى من ذى قبل ونشأت بينهما شرارة إعجاب بعد فصول من السجال والشد والجذب. يدور بينهما هنا تناظر حوارى موضوعه الظاهرى هو هواية البطل فى سباقات الخيول، والتالى هو جزء مقتطع من الحوار تبدأه فيفيان بعقد تخمين حول مستوى مارلو فى قيادة الخيول:
-----
- أرى أنك لا تحب أن يقيمك أحد، وتحب أن تكون فى المقدمة، ثم تأخذ قسطاً من الراحة خارج حلبة السباق، وتعود فى المقدمة حراً.
- وماذا عنكِ؟ هل تحبين أن يتم تقييمك؟
- لم أعثر على من يستطيع فعلها، هل من اقتراحات؟
- لا أستطيع أن أحكم إللا بعد رؤيتكِ على أرض الملعب، أنتِ تملكين لمسة رقى لكننى لا أعرف إلى أى مدى تستطيعين الذهاب.
- هذا يتوقف على من يجلس فوق السرج.
----- 
كانت هذه من أوائل وأنضج المحاولات فى تاريخ السينما لعقد مشهد حوارى قائم على الإيحاء، ويسهل بالطبع تتبع المعانى الجنسية به، فالمقدمة هى المبادرة بالدعوة لبدء علاقة، والعودة حراً ترمز للتعددية والخوف من القيود، وأرض الملعب هى الفراش، و"إلى أى مدى تستطيعين الذهاب" و"من يجلس فوق السرج" كلها جمل تعبر عن توقعات البطلين حول مستوى العلاقة أو المضاجعة.

فيلم "النوم الكبير" هو أحد علامات ما يُعرف بموجة الفيلم-نوار، وهى كما يصفها الناقد "جيمس ديفدسون"، موجة نشأت فى هوليوود مع الحرب العالمية الثانية، وقد كانت تلك الموجة انعكاساً لحالة الإحباط والقلق المرضى التى انتابت ذكور المجتمع بعد عودتهم من الحرب وإدراكهم أن هناك من حل محلهم على صعيد الوظائف والزيجات والعلاقات العاطفية والعائلية. وكانت الحوارات الإيحائية كالحوار السابق هى إحدى الأدوات الأسلوبية لتلك الموجة، مثلها مثل الإضاءة الخافتة والسوداوية وتيمات الغموض والتشويق، كل ذلك عَكَسَ حالة فقدان الثقة والارتباك التى انتابت المجتمع وقتها.

وكما ساهمت موجة الفيلم-نوار بأبعادها الاجتماعية والسياسية فى إثراء الحوار السينمائى، ساعدت أيضاً الشفرة الرقابية (Hays Code) التى سادت بين أفلام الستوديوهات الكبرى فى هوليوود فى نفس الفترة، تلك الشفرة التى وضعت محاذير حول مناقشة الأفلام لبعض الموضوعات التابوهية كالجنس والدين، وحضت على عدم استخدام أساليب لغوية فجة وبذيئة من التى تنتمى للغة الشارع الفعلية. فإذ بكُتاب الأفلام يلجئون إلى ابتكار طرق حوارية وإيحائية للتحايل على تلك القيود، ما جعلها تساهم هى الأخرى (دون قصد) فى إثراء أساليب الحوار وبلاغته.

هناك مشهد آخر من فيلم "النوم الكبير" يستقل فيه مارلو عربة تاكسى تقودها امرأة، وبعد أن تقوم تلك المرأة بإيصاله لوجهته تعطيه بطاقة تعريفية لها قائلة: "إن احتجتنى مجدداً يمكنك الاتصال على هذا الرقم"، فيسألها مارلو: "هل أنتِ متاحة بالنهار والليل؟" فترد السائقة: "أُفضل الليل، لأنى بالنهار أكون فى العمل." نفهم من هذا الحوار الإيحائى الظريف أن السائقة أرادت فقط مضاجعة مارلو، لا العمل لصالحه كما يبدو التصريح.

مع نهاية الخمسينيات، حين تراخت سطوة الشفرة الرقابية وتحررت منها هوليوود بالتدريج، كان لذلك أثر سلبى على الحوار السينمائى استمر حتى مطلع السبعينيات، رصدت كوزلوف هذا الأثر فى كتابها "التنصت على الحوار السينمائى" قائلة: "سادت الأساليب التصريحية المباشرة فى التعبير عن الأفكار التابوهية، ولغة الشارع السوقية، وزاد الإطناب والرغى، وأُهمل الخطاب المجازى...، وقل الاهتمام بالإيقاع، ولم تعد الأحاديث مصقولة أو مشغولة، واتسمت بمناخ ارتجالى ... والمثال الأبرز على هذه الحالة فيلم "وجوه" لجون كاسافيتس."

لكن هذا الهياج المزلزل نحو الطبيعية، كما تصفه كوزلوف، لم يستمر طويلاً، خاصة مع خفوت الموجة الفرنسية الجديدة التى على الأرجح كانت مصدر إلهام هوليوود بالنزعة الطبيعية للحوار، وعادت الحوارات تدريجياً إلى الطابع الفنى القديم. أذكر هنا مشهد من فيلم "الحب والموت" لوودى آلن فى منتصف السبعينات، فبعد أن ينتهى البطل "بوريس" من ممارسة الجنس مع عشيقته تُخبره أنه حبيب جيد، فيرد بوريس: "حسناً، ذلك لأننى أتدرب كثيراً عندما أكون وحيداً" .. وهو رد شديد الألفة مع المشهد السابق من فيلم "النوم الكبير" الذى سبقه بثلاثين عاماً، فعن طريق الإيحاء الظريف، أيضاً، يكشف آلن عن تاريخ الشخصية البائس مع الجنس وإدمانها العادة السرية، دون الفجاجة أو المباشرة فى التصريح. لكن لا نستطيع القول باندثار النزعة الطبيعية تماماً، فقد استمرت جنباً إلى جنب مع النزعة الفنية، يناوش كلاهما الآخر، حتى ظهر "كوينتن تارانتينو" فى تسعينيات القرن الماضى ليقوم بالتوفيق الأبرع بين النزعتين فى فيلمه Pulp Fiction، ويثبت أن حتى الحوار الطبيعى الخالص يُمكن أن ينتج عنه شىء عالى الفنية.


نعود إلى وظيفة الحوار التقليدية وهى الحكى أو تسريب معلومات عن الشخصيات والعالم الذى تدور به القصة. لو كان هذا التسريب مباشر فهى إشكالية هينة، أما الإشكالية الكبرى فهى عندما يتسم هذا التسريب باللا معقولية، وهذا يحدث حينما تُخبر شخصية الأخرى بمعلومة تعرفها بالفعل، فيكون الغرض الحقيقى هو إيصال المعلومة للمتفرج لا الشخصية المستمعة، هنا يخرق الكاتب المنطق لعجزه عن إيجاد طرق أكثر ابتكاراً لإيصال المعلومات.
  
ومثال شهير لهذا الخطأ يوجد بفيلم "الرجل الثانى" لعز الدين ذو الفقار، حيث يدور تناظر حوارى بين رشدى أباظة وسامية جمال فى بداية الفيلم يكشف عن تاريخ علاقتهما وطبيعتها الراهنة، يقذف فيه كلاهما الآخر بمعلومات قُتلت بحثاً بينهم، لا لشىء سوى أن يعرفها المتفرج، والتالى هو جزء مقتطع من ذلك الحوار تبدأه سامية جمال:
-----
-
إذا كنت حقيقى بتحبنى يا عصمت كنت اتجوزتنى.
- مئة مرة فهمتك إن وقتها الظروف مكانتش تسمح، مكانش معقول أبداً حفيد كاظم باشا يتجوز سكينة الفقى، ثم أنا عوضتك خليتك بقيتى سمرا، نار على علم، وبرضه عيّشتك معايا، ما اتخلتش عنك أبداً.

- أبداً! لدرجة إنك ما قبلتش إن بنتنا تتنسبلك، واضطر ديورز ينسبها لنفسه، ويزوّر فى شهادة الميلاد.
- وعمل كدا علشان مين؟ لولايا كنتى هتلاقى فين زوج صورى زيه، متحرر.
- ومديلك العذر إنك ما تكتبش عليا .. لو رجعت أزن عليك تانى تتجوزنى تصدرله أوامر ما يطلقنيش، مش كدا؟

-----
ما سبق لا يعنى أنه يجب توقف الحوار عن وظيفة الحكى والكشف عن المعلومات، ولكن كلما كان هذا الكشف مبتكراً ومنطقياً ومتناغم مع الحالة البصرية وليس مجرد سكب مجانى للمعلومات (كما يحدث فى المشهد السابق) كلما كان أفضل، يمكن أن يكون ذلك من خلال صراع، أو من خلال ذروة، أو من خلال دعابة، أو من خلال شخصية صفتها إعلامية مثل صحفى أو فيلسوف أو عالم، والأخيرة مثلا استغلت بفيلم
Interstellar لشرح النظرية النسبية.


ومن الطرق الناجعة أيضاً فى الكشف، هناك ما يُعرف بـ "الزلة الفرويدية"، وهى عندما يحدث خطأ فى وظائف العقل ينكسر على اثره الحائط العازل بين الوعى واللا وعى، فيتسرب ما يكنّه الشخص بعقله الباطن على لسانه رغماً عنه، وهى من طرق التحليل النفسى لفرويد، وسأسقطها على مثال من السينما المصرية أيضاً.

يجب الإشارة، أولاً، إلى أن السينما المصرية سينما أكثر ارتباطاً بفن الرواية، فمعظم الأفلام المصرية المهمة، منذ فجرها وحتى سبعينيات القرن الماضى، مأخوذة عن نصوص روائية، وهو ما انعكس على حوارات الأفلام، فقد خلت معظمها مما يمكن وصفه ببلاغة سينمائية، واستعاضت باستعارة البلاغة الأدبية للروايات المأخوذة عنها.

والمثال، الذى قد يبدو راديكاليا لكنه غاية فى الأهمية، من فيلم "الخيط الرفيع" المأخوذ عن رواية لإحسان عبد القدوس، حيث يدور حوار بين البطل والبطلة حول إشهار علاقتهم كالتالى:
-----
- الخالق بيدي ما بياخدش، يكفيه عبادة خلقه، وأنا بعبدِك.
- الخالق بيطلب من الناس انهم يعبدوه في الجهر وأنت بتعبدني في السر.

- العبادة في السر أخلص العبادات.
- العبادة مش خطيئة .. أنت بتعتبر حبك ليا خطيئة؟
- مش أنا، ده المجتمع .. مجتمع من الكافرين .. محدش مؤمن بيكي إلا أنا.
- خليك نبي وأنشر دعوتك.
- مقدرش أكون نبي.
- ومين قالك أني أقدر أكون إله

-----
لا شك فى روعة ذلك التناظر الحوارى من حيث المبدأ، وبالتحديد حين قراءته فى رواية أو قصة أو مسرحية، والحقيقة أنه بالفعل منسوخ مباشرة من رواية عبد القدوس، فقط قام السيناريست "يوسف فرنسيس" بجعل اللغة أكثر عامية من الفصحى التى بالرواية، لكنه لم يبذل أى مجهود لإضفاء أى بُعد سينمائى للحوار. يُمكن أيضاً قبوله كمنشور على مواقع التواصل الاجتماعى، ولاحظت له بالفعل انتشار ناجح على هذه المواقع، وهى من القرائن على إمكانية احتفاظه بقوته حتى مع عزله عن وسيطه السينمائى، وربما تلك هى المشكلة، أنه ضعيف الصلة بالسينما كوسيط أكثر حيوية.

مبدئياً هو ليس بإيحاء مثل النموذج الأسبق من فيلم "النوم الكبير"، لأن الموحى به هنا (وهو العلاقة غير الشرعية) معروف ومعلن فى سياق الفيلم وليس على المتفرج أن يستنبطه. إذن، فهو فقط حوار استعارى بشكل مُبالغ فيه، لا يكشف ما هو جديد عن الشخصيات، ويفتقد للمعقولية، كما لا تضيف بلاغته الأدبية شيئاً مع الوسيط السينمائى سوى إرباك المتفرج وجعله تائهاً فى رحلة ربط عبثية بين المشبه والمشبه به .. النص الجيد إذن ليس، بالضرورة، نصاً سينمائياً جيداً.

مع مطلع الثمانينيات لمعت أجيال من كُتاب السيناريو أكثر أصالة واستقلالاً عن الأدب، مثل فايز غالى، وبشير الديك، ورؤوف توفيق وانضم لهم محمود أبو زيد ورأفت الميهى فى نسختهما المتطورة، وصولاً إلى وحيد حامد، وسأركز مع الأخير لأنه النموذج الأكثر تعبيراً عن موضوع هذه الدراسة، فبالرغم من أن ترسيبات البلاغة الأدبية قد ظلت حاضرة بأعماله المبكرة، خاصة وأن أصول تلك الأعمال لم تكن سوى مسلسلات إذاعية، وهو وسيط كلامى بحت يختلف لدرجة كبيرة عن السينما، إلا أن حامد قد نجح فى التحرر من تلك السمة والتطور تدريجيا على مرّ تاريخه الإبداعى بصورة مثيرة للإعجاب.


 

وصل ذلك التطور لقمته بفيلم "الإرهاب والكباب - 1992". وأتوقف مع هذا الفيلم عند جملة على لسان المجند هلال (أشرف عبد الباقى)، عندما يخبره أحمد (عادل إمام) أن وظيفته (أى وظيفة هلال) هى خدمة الوطن، فيرد هلال: "لا .. أنا مش فى خدمة الوطن، أنا فى خدمة الباشا سيادة اللواء، وحرم الباشا سيادة اللواء، والعيال الباشاوات ولاد سيادة اللواء". الجملة السابقة، بجانب ما بها من نبرة كوميدية مُحببة، فهى أيضاً من الأمثلة شديدة النضج على كيفية الحكى بـ"الزلة الفرويدية" التى شرحناها.

ويكمن ذلك فى استخدام كلمة "الباشا" وتكرارها بمشتقاتها على مدار الجملة، وهى كلمة دالة على التوقير. رغم أن هلال الآن فى وضع قوة، يمسك فى يده مدفعاً، ويحتجز عديد من الرهائن، والدولة (بما فيها سيادة اللوا) خاضعة لطلباته، لكنه لا يستطيع التحرر من ترسيبات حالة العبودية التى خلّفتها (فى لاوعيه) تجربته مع التجنيد الإجبارى والعمل بالسخرة لمصالح أفراد، فهو رغم تحوله من شخص مهمش مستعبد إلى شخص ذى قوة وأهمية، إلا انه مازال يجلّ مَن استعبده (رغم غيابه عن المشهد)، وزوجة مَن استعبده (رغم ضعف صلة الاستعباد)، وأبناء من استعبده رغم أنه يعى كم هم حقراء، فهم "العيال"، لكنهم فى نفس الوقت "الباشاوات"! كل هذه التناقضات لخصت فيما لا يزيد عن ثلاث ثوانٍ ما يتم حكيه فى ثلاث صفحات، فى وصف ضخامة حالة العبودية وخلفية معاناة هذه الشخصية. كل ذلك عن طريق الزلة الفرويدية، أى حين تسرب ما بعقله الباطن عبر لسانه.

إن سمة الحوار العظيم كما يقول "جون تروبى" فى كتابه "تشريح القصة" هى أللا يكون مثل اللحن الموسيقى (خط عزف واحد)، بل مثل السيمفونية التى تحدث بين ثلاثة خطوط بالتوازى. والثلاثة خطوط هى القصة ويرمز لها باللحن، وقيم الشخصية ويرمز لها بالهارمونى خاصة حين تدخل فى سجال مع قيم شخصية أخرى، وأخيراً جمال التركيب ويرمز له بالـ
Leitmotif وهى اللزمة المميزة أو المذهب المتكرر الذى يجعلنا نتعلق بالسيمفونية. ذلك ينطبق كُلية على جملة "هلال"، فهى تحكى جزء من تاريخ قصته مع المعاناة وتدفع القصة للأمام (الخط الأول- اللحن)، كما تكشف عن قيم الشخصية الآبية الواعية رغم الانكسار (الخط الثانى - الهارمونى)، وأخيراً فلها رنة موسيقية ومفارقة تركيبية مضحكة (الخط الثالث - التركيب)، لذا فهى من الجُمل الحوارية العظيمة وفق نظرية تروبى.



نصل أخيراً لأداة "ما وراء النص" أو Subtext، والتى تتشابه مع الإيحاء، فالمصرح به غير المقصود، لكن الفرق أن الشخصية لا تدرك المقصود دائماً، فعلاقة الوعى باللاوعى هنا مرنة، يعرفها صانع العمل ويحاول توجيه المتفرج لفهمها، لكن الشخصيات المتحدثة لا تدركها إدراكاً كلّياً. يُقدم لها روبرت مِكى تعريفاً بطريقته فى كتابه "القصة" قائلاً: "عندما لا يكون المشهد عمّا يبدو أنه عنه، هناك نص فرعى، حياة داخلية تتناقض أو تتعارض مع النص .. إن حقيقة الشىء ليست كما يبدو. يتطلب هذا المبدأ من كاتب السيناريو عناية بازدواجية الحياة، واعترافاً بأن كل شىء يوجد على مستويين. أولاً، يجب أن يبتكر وصفا لفظيا لسطح الحياة المحسوس. ثانيا، يجب أن يبتكر العالم الداخلى للرغبة الواعية وللا واعية، وفعلاً ورد فعل، نبضاً وهوية، وضرورات وراثية وتجريبية. يجب عليه أن يحجب الحقيقة بقناع حى بالأفكار والمشاعر الحقيقية للشخصيات وراء ما يقولون ويفعلون."

وقد قام "وودى آلن" بصنع المثال الأشهر فى تاريخ السينما لبلاغة ما وراء النص، وهذا من خلال مشهد الشُرفة من فيلم "آنى هول"، حيث يحتوى ذلك المشهد على ترجمة انجليزية لما يقوله الأبطال بالانجليزية أيضاً، تعمل الترجمة على شرح دوافعهم الحقيقية وراء كل جملة، فمثلاً حين يخبر آلفى آنى بأن لوحاتها تعجبه تظهر على الشاشة ترجمة لكلامه بفحوى مختلف عما يُقال مثل: "أنتِ فتاة جميلة، تُرى كيف تبدين عارية!"، ويستمر الحوار بينهما على هذا المنوال، فالحوار يحوى ما يكمن بالوعى وهو أن ألفى يمتدح ذوق وشخصية آنى، بينما الترجمة توضح ما باللا وعى وهو أنه لا يهمه سوى النوم معها. ويُعد هذا المثال الأهم والأوضح لأن رب العمل قرر تقديم شرح خارجى له بهدف كوميدى.


وإذا كان المشهد السابق يُعبر عن حديث مِكى حول الأقنعة التى يتلبسها البشر تلقائياً فى الحياة، مهما كانت درجة إخلاصهم، إلا أن مِكى يعود ليضيف سبباً جديداً لتلك الأداة وهو أن مشاعرنا العميقة تخدعنا مهما حاولنا إظهارها. "نحن لا نعبِّر أبداً بشكل كامل عن الحقيقة لأننا نادراً ما نعرفها." ويأخذنى ما قاله مِكى لمشهد آخر من "آنى هول"، فى ذلك المشهد شديد الرومانسية تسأل آنى "هل تحبنى؟"، فيجيبها آلفى: "الحب كلمة ضعيفة جدا مقارنة بما أشعر،" ويتابع: 
"I Lurve you
.. I Loave you
.. I Luff you
with double Fs
."
لاحظ هنا أنه لم يضف شيئاً فعلياً على كلمة الحب العادية
(Love)، فقط أخذ يجعل حروفها أكثر غلظة وقوة فيما يخص الرنة الصوتية للكلمة، لكنه لم يضف معنى جديد فيما يخص الشعور تنفيذاً لوعده ببداية الجملة، ورغم هذه اللجلجة والإفلاس الكلامى وخلوه من بلاغة شعرية أدبية مثل التى كانت فى مشهد "الخيط الرفيع"، إلا أننا لم نشك للحظة فى قوة وصدق مشاعره فى ذلك الموقف، بل العكس، فما بداخله، حقاً، قوى لدرجة أنه لا يستطيع وصفه بكلام مُنمق ومُعد بعناية، لأننا وكما قال مِكى نعجز عن معرفة ما يدور بداخلنا معرفة حقيقية، وهنا فانعدام البلاغة كان هو البلاغة بعينها.


ما قاله مِكى ينطبق بشكل أكثر فلسفية على مشهد من فيلم "جيلدا" للمخرج تشارلس فايدور، وهو ينتمى لفئة الفيلم-نوار. فى هذا المشهد تعبر البطلة والبطل عن كرههما الظاهر فى علاقتهما الشائكة المضطربة طوال الفيلم، والتى تخفى وراءها شغفا وشبقا وهوسا رهيب، تخطى فى قوته شعور الحب نفسه. والغريب أنهما بعد تبادل كلمات الكُره والاحتقار يقومان بالعناق والانهماك فى قُبلات شديدة السخونة تطبعها وتتلقاها جيلدا وهى مازالت تغمغم حول كرهها المُميت لجونى، فى تناقض صارخ بين الفعل والقول تأكيداً على ما ورائية النص. 

هناك مقولة للروائى "إلى فيزيل" تقول: "نقيض الحب ليس الكُره، وإنما اللا مبالاة." وهى جُملة بليغة أدبياً، وراءها معنى عميق، ويمكن تقبلها بإعجاب وانبهار على صفحة بيضاء جرداء من الحسيات والمرئيات والمؤثرات كصفحة الرواية، لكنها قد لا تعنى شيئاً لو تم التصريح بها كما هى داخل فيلم. والتعبير السينمائى الأبلغ عن نفس المعنى هو ما تمّ فى مشهد "جيلدا"، التناقض بين النص والصورة، التصريح بالكُره مع ممارسة فعل الحب، كى نصل من ورائية النص لمعنى فيزيل العميق، فالكره فعلا ليس نقيضاً للحب، بل شكلاً آخراً منه، يُمكن أن يكون أكثر سخونة، هذا المعنى يُمكن التنظير له لكنه أكثر تعقيداً من أن تفهمه الشخصيات، لذا فما ورائية النص نجحت فى التعبير عن هذا المعنى المُعقد من خلال هذا التناقض الظاهرى المُلهب للفكر والحواس، والذى يضيف للصورة معنى وجاذبية.


يمكن للتناقض ما وراء النصى أن يأخذ أشكالاً أكثر تركيباً من نموذج "جيلدا". وهذا ما فعله الكاتب "تشارلى كوفمان" فى فيلمه "اقتباس" وتحديداً فى المشهد الذى يذهب بطله إلى محاضرة تعليم كتابة السيناريو التى يلقيها "روبرت مِكى"، بعد أن فشلت كل محاولات الأول فى تحويل كتاب وثائقى عن زهور الأوركيد إلى فيلم روائى. نجد البطل جالساً فى صمت مع باقى الحضور ولكننا نسمع ما يدور بخُلده عبر أسلوب الراوى voice-over، فهو يُعبر عن هواجسه واحباطاته الشخصية والمهنية وكبريائه الفنى المجروح بتلك الطريقة:

"إنني بائس مثير للشفقة إنني فاشل لقد فشلت. إنني هلع لقد انتهت صلاحيتي.  إنني عديم النفع، إنني ... اللعنة ماذا أفعل هنا؟ ما أوصلني إلى هنا هو ضعفي، وافتقاري اللامحدود للإقناع، البحث عن أجوبة سهلة، تلك القواعد المتبعة لتختصر الطريق إلى السعادة، وأنا هنا لأن رحلتي إلى الهاوية لم تجلب لي أي شيء، أليست مجرد مخاطرة ومحاولة البحث عن شيء جديد؟ عليّ المغادرة الآن. سأبدأ من جديد .. عليّ مواجهة هذا الأمر بشكل مباشر."

ما يجعل المونولوج السابق عبقرياً ليس النص نفسه بما يحتويه من نزعة نفسية وروائية عميقة، بل لأنه ينتهى على صوت قطع من المُحاضر "مِكى" وهو يوجه حديثه للحضور قائلاً: "وحذارى يا بُنى، أن تستخدم أسلوب الراوى voice over، إنها طريقة ضحلة وهشة، أى أحمق يمكنه استخدام هذه الطريقة لشرح أفكار شخصياته." من هذا التناقض نفهم أن مونولوج البطل السابق لم يكن سوى نصاً سطحياً يكمن وراءه نص آخر، فالبطل فاشل وبائس بالفعل، لكن ليس لأنه يصرح بأنه فاشل كما نسمع بالنص السطحى، بل لأنه يصرح عن هذا الفشل بطريقة فاشلة (أسلوب الراوىوهذا كان ما وراء النص.


ولا تتوقف البلاغة فى هذا المشهد عند هذا الحد، بل تمتد لتكون أداة تفكيك للنص من الداخل، من أجل توجيه صفعة لقواعد مِكى، فما ورائية النص التى شرحنا جمالياتها لا تنفى أن النص اخترق قاعدة "عدم استخدام أسلوب الراوى"، فهو استخدمه بالفعل، لكن ما نتج عن هذا الاستخدام شىء بديع، يؤكد أنه لا قواعد صارمة فى الفن، بل مجرد مقاصد، لا توجد وسيلة لبلوغها أحياناً سوى باختراق القواعد المزعومة، فهدمها، فالبناء عليها.

ومثل التناقض، والأقنعة، وتعقيد الدواخل، يُمكن أن تُستخدم أداة ما وراء النص للتمهيد الدرامى. ففى مشهد من الفيلم الفرنسى "الأزرق أكثر الألوان دفئاً" توجه إيما سؤالاً إلى أديل حول مادتها الدراسية المفضلة، فترد أديل: "الأمر يعتمد على مُعلم المادة، فلو أعجبنى أسلوبه سوف أشعر بشغف نحو مادته، وستكون هى مادتى المفضلة"، من الممكن أن يكون هذا الحوار عادياً فى أى سياق آخر إللا سياق هذا المشهد الذى يحوى مرحلة بداية الانسجام بين الفتاتين بعد شرارة الانجذاب الأولى بلقائهن فى الشارع، وتهييئاً للرابطة الجنسية القادمة، فإجابة أديل التى تنفى تفضيلاتها المسبقة فيما هو دراسى، يسهل إسقاطها على تفضيلاتها المسبقة فيما هو جنسى، أى أن الجملة تورية على ثنائيتها الجنسية bisexuality، فهى لا تفضل الرجال أو النساء بقدر ما يهمها الشخص الذى ستنام معه أياً كان جنسه، وهو ما شاهدناه بالفعل خلال أحداث الفيلم، لذا فالجملة تعد من نماذج التورية النصية التى تُعرفنا على شخصية بلا توجهات ويسهل وقوعها

وختاماً، ربما أغفلت هذه الدراسة بعض الجوانب الهامة، مثل أداء المُمثل وكيف ينتقص أو يضيف أحياناً لبلاغة ما يقوله، بالإضافة لإمكانية اختلاف ما هو بليغ مع اختلاف الأنواع الفيلمية. فالحوار السينمائى سيظل من المباحث الهامة التى يشوبها الجدل والغموض، وكلّما استوعبنا كيف يعمل كلما ساعدنا ذلك، ليس فى فهم السينما والاستفادة بوسيطها الفنى إلى أقصى درجة وحسب، بل وأيضاً فى فهم كيف يعمل البشر أنفسهم، لقد تخطى دور الحوار السينمائى تقليد الواقع وأصبح هو ذاته قِبلة تقليد للبشر، يتعلمون منه كيف يتحدثون، وتفوقت مقولات الأبطال الشعبيين فى السينما على مقولات الفلاسفة والعلماء ورجال الدين فى نسبة تأثيرها وانتشارها. أنت لا تحتاج لخبرة تزيد عن دقائق على مواقع التواصل الاجتماعى لتدرك إلى أى مدى أصبح البشر يتناولون الأخبار والظواهر والأحداث الجارية وكل شىء بردود جاهزة مُستمدة من المقولات السينمائية الشهيرة، إننا نعيش عصراً أصبحت تتحدث فيه السينما نيابة عن البشر، وهو سبب آخر لمحاولة فهم كيف تتحدث ... وكيف يجب أن تتحدث.


بقلم أمجد جمال

3 التعليقات:

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
back to top