جميع المواضيع

 
*يحتوي على حرق لأحداث الفيلم*

في واحد من عروضه الكوميدية يتعجب "جورج كارلين" من السبب الذي يجعلنا دائما نتناول قضية المناخ بشكل يوحي أن كوكبنا مُهدد وأننا المنقذون:
"(..) هذا الكوكب موجود منذ 4.5 مليار سنة، شهد فيها حوادث عدة أسوأ بكثير منا نحن البشر في المئتي سنة الأخيرة التي دخلنا فيها عصر الصناعة... زلازل، براكين، تحولات في الغلاف الصخري، انجرافات قارية، انفجارات شمسية، آلاف السنين من الصدامات مع الشهب والنيازك، فيضانات، حرائق، تجريف، عصور جليدية .. ثم نأتي نحن الآن بمنتهى الصلف لندعي أن مخلفاتنا من الأكياس البلاستيكية وصفائح الألومنيوم تُمثل أية فارق بالنسبة للكوكب؟! إن الكوكب على ما يرام .. نحن البشر الذين أصبحنا في ورطة، الكوكب لن يذهب لأي مكان آخر، وسوف يُنظف ويعالج من نفسه تلقائيا ويبقى لوقت طويل للغاية، نحن من سوف نذهب بلا رجعة."
يتشارك المخرج والمؤلف الأميركي المثير للجدل "دارين أرونوفسكي" الرؤية السابقة مع كارلين في فيلمه الأحدث Mother! ولكن بنبرة فائقة السوداوية، ذلك الفيلم الذي يزدري المسيرة البشرية (التاريخ والميثولوجيا) منذ مهدها بجريمة القتل الأولى المذكورة في القصة التوراتية عن قابيل وهابيل، مرورا بحادثة طوفان النبي نوح الذي سبق وقدمها أرونوفسكي في فيلمه السابق Noah عام 2014، برؤية معاصرة منزوعة القداسة أثارت غضب الكثيرين، ويعود للتلميح بها من جديد في "أم" في مشهد يتسبب فيه ضيوف المنزل بعنادهم في انفجار ماسورة مياه كادت تغرق المنزل، لولا تدخلت الطبيعة "الأم" (جينيفر لورانس) لتنقذ الموقف وتصلح وتعالج من نفسها تلقائيا كما حدثنا كارلين، فتعطي فرصة أخرى للمسيرة الإنسانية المزدراة في الفيلم بأسلوب رمزي مكثف الوضوح. 

ولكن الأخيرة تتمادى في سلوكياتها الحمقاء. الحماقة التي تبدأ مع "إد هاريس"، الذي يرمز لشخصية "آدم" أبو البشر، عندما يخالف تعليمات الأم بعدم إشعال السجائر داخل المنزل، ثم "ميشيل فايفر"، وهي ترمز لحواء، باقتحامها الغرفة المُحرم دخولها.

وتتوالى التعديات وتمر العصور حتى الوصول ليومنا الحاضر، نسمع الغوغاء أثناء اقتحامهم للمنزل يرددون هتاف ثورات الربيع العربي التي ينظر لها الفيلم كفعل فوضوي، وفصل جديد من تاريخ ملوّث ومن ممارسات سيئة تهدد استمرار البشر على الأرض كالحروب والإبادات الجماعية وأزمات اللاجئين والمجاعات والزيادة السكانية المجنونة، والتطرف الديني الذي رمز له الفيلم بهوس المعجبين تجاه شاعرهم المفضل (خافيير بارديم) بعد أن انتهى الأخير من كتابة قصيدة شعرية يرمز لها الفيلم بكتب الديانات الإبراهيمية وما سببته من صراعات وفِتن وحروب بين أتباعها.

أما النقطة الأبرز والهمّ الرئيسي الذي يؤرق أرونوفسكي فهو تعدي الإنسان على الطبيعة (الأم)، حتى أنه يظهر في بعض المشاهد شخص يتحرش جنسيا بالشخصية التي تلعبها "جينيفر لورانس" (الأم). وكلها تراكمات أدت في النهاية لتتابع سينمائي مُفزع يحدث في النصف ساعة الأخيرة من الفيلم، تصل فيه الطبيعة الأم لنقطة التمرد، والخاسر والفاني الوحيد من ذلك لم يكن سوى الإنسان. أما المنزل (رمز الكوكب) والأم (رمز الطبيعة) فهما في حالة عَودٍ أبدي.

تلك الرموز ليست من استنتاج كاتب السطور، بل صرّح بها أرونوفسكي علانية في أحد البيانات التي ألقاها قبل العرض الأول لفيلمه بمهرجان "فينيسيا" مطلع سبتمبر الماضي.

الرمزية في الحكي كانت تستخدم قديما بهدف رئيسي وهو الهروب من السلطات الرقابية، والآن في عصر تلاشي معظم السلطات الرقابية على الفن أصبحت تستخدم كوسيلة إبداعية لرؤية الأمور من زوايا إدراكية مختلفة، تُبسّط وتجرد القضايا الخلافية لإعطاء المتلقي فرصة أفضل للحكم. بجانب أن الرمزية في ذاتها هي نوعٌ من اللعب، وهي تحدي من المبدع للمتلقي، ودعوة مثيرة من الأول كي يصحبه الثاني في رحلة داخل أغوار عقله. والذي يدور في عقل أرونوفسكي هنا مثير بالفعل، ويستحق عناء الرحلة وإرهاقها النفسي.

أفلام عديدة ناقشت القضية المناخية والطبيعية، لكن طزاجة الرؤية التي يقدمها أرونوفسكي هنا تكمن في لا اكتراثيته، حيث النظر للشأن الإنساني من منظور ما بعد إنساني، وهو مُنزّه عن النرجسية التي انتقدها كارلين فيمن يسمون أنفسهم بنشطاء الطبيعة، فهو يتناول المسيرة البشرية كحادثة عارضة (سيئة بالتأكيد) من تاريخ كوني ممتد. "أم" ليس فيلما عدميا لكنه فيلم لمبدع وصلت حالة الغضب عنده لنقطة اليأس القصوى، وأدرك أنه قد فات أوان التحذير. أرونوفسكي هنا ليس منقذا بل مجرد شاهد على الفاجعة التي تنتظرنا.

بشريط صوت يخلو من موسيقى تصويرية، وبتعتيم للزمن الذي تدور به الأحداث، حيث اقتصار وسائل الاتصالات على هاتف منزلي، وتتعطل الهواتف الخلوية، لا ذكر لوجود الهواتف الذكية أو الإنترنت، ولم يطلعنا الفيلم على الوسيلة التي أرسل من خلالها الزوج قصيدته للناشرة وسرعة الاستجابة الفائقة، هو يهرب من إعطاء إشارات تدل بدقة عن الحقبة الزمنية التي يعيشها الأبطال، وهو المطلوب من فيلم يستهدف الزمن بأكمله مختزلا في تلك الكبسولة السينمائية التي تلخص التاريخ نفسه. وبنفس المنهجية يقوم الفيلم بالتعتيم على أسماء الشخصيات فلا يُشار لهم إلا بالضمائر، فهم يمثلون ما هو أشمل من أنفسهم.

يقدم أرونوفسكي ساعة أولى من الفيلم بتكوينات مسرحية مرتبة وأنيقة، تنساب في أرجاء المنزل بجمال يصاحبه التوتر، ساعد في ذلك انضباط وتألق الكاست التمثيلي بأكمله. والساعة الأخرى هي كابوس مكتمل الأركان. ليست أحداث الفيلم وحدها هي ما يزداد حدة بمُعدل جنوني، أيضا تفاصيل الأنوثة لدى "جينيفر لورانس" وجمال مفاتنها يبرز كلما سار الفيلم نحو نقطة النهاية (تطلب منها إحدى الشخصيات بخبث وغيرة أن تغطي صدرها العاري في أحد المشاهد)، وكأن إبراز الأم لجمالها هو أحد الآليات الدفاعية الاستعطافية من الطبيعة ضد المنتهكين؛ لتذكرهم بمزاياها التي هم مقبلون على دحرها، ولتذكير الزوج بكونها مازالت قادرة على العطاء، وأنه ليس بحاجة لإشباع غروره بنيل إعجاب مجموعة من الغرباء المزعجين، فهي أفضل وهي تكفيه.

الكاميرا تصاحب الأم طوال أحداث الفيلم لنرى كل الأمور بعينها، نرى كل اللامعنى، وكل اللامنطق الذي يُمارس ضدها؛ كي لا نلوم ردة فعلها النهائية، أو حتى نعيب على الطبقة القشرية من قصة الفيلم (حكاية الزوج والزوجة) هشاشتها وغرابة الدوافع لدى شخصياتها واتسامها باللامعقولية إلا بعد إدراك ماوراءها من رموز. فالعبث واللامعنى بالطبقة القشرية من هذه القصة لا يمكن فصله بأي حال عن القصة بعمقها ورمزياتها، هما كيانٌ واحد، وما العالم السطحي من تلك القصة، وأي قصة، بل ومجمل حياتنا اليومية التي تُلهم القصص سوى تراكمات من العبث والحماقة التي قامت بتغذية الطبقات الأعمق في قصة "أم".

"أم!" أرونوفسكي .. والفاجعة التي تنتظر البشر

كتب Amgad Gamal  |  نشر في :  8:18 ص 0 تعليقات

 
*يحتوي على حرق لأحداث الفيلم*

في واحد من عروضه الكوميدية يتعجب "جورج كارلين" من السبب الذي يجعلنا دائما نتناول قضية المناخ بشكل يوحي أن كوكبنا مُهدد وأننا المنقذون:
"(..) هذا الكوكب موجود منذ 4.5 مليار سنة، شهد فيها حوادث عدة أسوأ بكثير منا نحن البشر في المئتي سنة الأخيرة التي دخلنا فيها عصر الصناعة... زلازل، براكين، تحولات في الغلاف الصخري، انجرافات قارية، انفجارات شمسية، آلاف السنين من الصدامات مع الشهب والنيازك، فيضانات، حرائق، تجريف، عصور جليدية .. ثم نأتي نحن الآن بمنتهى الصلف لندعي أن مخلفاتنا من الأكياس البلاستيكية وصفائح الألومنيوم تُمثل أية فارق بالنسبة للكوكب؟! إن الكوكب على ما يرام .. نحن البشر الذين أصبحنا في ورطة، الكوكب لن يذهب لأي مكان آخر، وسوف يُنظف ويعالج من نفسه تلقائيا ويبقى لوقت طويل للغاية، نحن من سوف نذهب بلا رجعة."
يتشارك المخرج والمؤلف الأميركي المثير للجدل "دارين أرونوفسكي" الرؤية السابقة مع كارلين في فيلمه الأحدث Mother! ولكن بنبرة فائقة السوداوية، ذلك الفيلم الذي يزدري المسيرة البشرية (التاريخ والميثولوجيا) منذ مهدها بجريمة القتل الأولى المذكورة في القصة التوراتية عن قابيل وهابيل، مرورا بحادثة طوفان النبي نوح الذي سبق وقدمها أرونوفسكي في فيلمه السابق Noah عام 2014، برؤية معاصرة منزوعة القداسة أثارت غضب الكثيرين، ويعود للتلميح بها من جديد في "أم" في مشهد يتسبب فيه ضيوف المنزل بعنادهم في انفجار ماسورة مياه كادت تغرق المنزل، لولا تدخلت الطبيعة "الأم" (جينيفر لورانس) لتنقذ الموقف وتصلح وتعالج من نفسها تلقائيا كما حدثنا كارلين، فتعطي فرصة أخرى للمسيرة الإنسانية المزدراة في الفيلم بأسلوب رمزي مكثف الوضوح. 

ولكن الأخيرة تتمادى في سلوكياتها الحمقاء. الحماقة التي تبدأ مع "إد هاريس"، الذي يرمز لشخصية "آدم" أبو البشر، عندما يخالف تعليمات الأم بعدم إشعال السجائر داخل المنزل، ثم "ميشيل فايفر"، وهي ترمز لحواء، باقتحامها الغرفة المُحرم دخولها.

وتتوالى التعديات وتمر العصور حتى الوصول ليومنا الحاضر، نسمع الغوغاء أثناء اقتحامهم للمنزل يرددون هتاف ثورات الربيع العربي التي ينظر لها الفيلم كفعل فوضوي، وفصل جديد من تاريخ ملوّث ومن ممارسات سيئة تهدد استمرار البشر على الأرض كالحروب والإبادات الجماعية وأزمات اللاجئين والمجاعات والزيادة السكانية المجنونة، والتطرف الديني الذي رمز له الفيلم بهوس المعجبين تجاه شاعرهم المفضل (خافيير بارديم) بعد أن انتهى الأخير من كتابة قصيدة شعرية يرمز لها الفيلم بكتب الديانات الإبراهيمية وما سببته من صراعات وفِتن وحروب بين أتباعها.

أما النقطة الأبرز والهمّ الرئيسي الذي يؤرق أرونوفسكي فهو تعدي الإنسان على الطبيعة (الأم)، حتى أنه يظهر في بعض المشاهد شخص يتحرش جنسيا بالشخصية التي تلعبها "جينيفر لورانس" (الأم). وكلها تراكمات أدت في النهاية لتتابع سينمائي مُفزع يحدث في النصف ساعة الأخيرة من الفيلم، تصل فيه الطبيعة الأم لنقطة التمرد، والخاسر والفاني الوحيد من ذلك لم يكن سوى الإنسان. أما المنزل (رمز الكوكب) والأم (رمز الطبيعة) فهما في حالة عَودٍ أبدي.

تلك الرموز ليست من استنتاج كاتب السطور، بل صرّح بها أرونوفسكي علانية في أحد البيانات التي ألقاها قبل العرض الأول لفيلمه بمهرجان "فينيسيا" مطلع سبتمبر الماضي.

الرمزية في الحكي كانت تستخدم قديما بهدف رئيسي وهو الهروب من السلطات الرقابية، والآن في عصر تلاشي معظم السلطات الرقابية على الفن أصبحت تستخدم كوسيلة إبداعية لرؤية الأمور من زوايا إدراكية مختلفة، تُبسّط وتجرد القضايا الخلافية لإعطاء المتلقي فرصة أفضل للحكم. بجانب أن الرمزية في ذاتها هي نوعٌ من اللعب، وهي تحدي من المبدع للمتلقي، ودعوة مثيرة من الأول كي يصحبه الثاني في رحلة داخل أغوار عقله. والذي يدور في عقل أرونوفسكي هنا مثير بالفعل، ويستحق عناء الرحلة وإرهاقها النفسي.

أفلام عديدة ناقشت القضية المناخية والطبيعية، لكن طزاجة الرؤية التي يقدمها أرونوفسكي هنا تكمن في لا اكتراثيته، حيث النظر للشأن الإنساني من منظور ما بعد إنساني، وهو مُنزّه عن النرجسية التي انتقدها كارلين فيمن يسمون أنفسهم بنشطاء الطبيعة، فهو يتناول المسيرة البشرية كحادثة عارضة (سيئة بالتأكيد) من تاريخ كوني ممتد. "أم" ليس فيلما عدميا لكنه فيلم لمبدع وصلت حالة الغضب عنده لنقطة اليأس القصوى، وأدرك أنه قد فات أوان التحذير. أرونوفسكي هنا ليس منقذا بل مجرد شاهد على الفاجعة التي تنتظرنا.

بشريط صوت يخلو من موسيقى تصويرية، وبتعتيم للزمن الذي تدور به الأحداث، حيث اقتصار وسائل الاتصالات على هاتف منزلي، وتتعطل الهواتف الخلوية، لا ذكر لوجود الهواتف الذكية أو الإنترنت، ولم يطلعنا الفيلم على الوسيلة التي أرسل من خلالها الزوج قصيدته للناشرة وسرعة الاستجابة الفائقة، هو يهرب من إعطاء إشارات تدل بدقة عن الحقبة الزمنية التي يعيشها الأبطال، وهو المطلوب من فيلم يستهدف الزمن بأكمله مختزلا في تلك الكبسولة السينمائية التي تلخص التاريخ نفسه. وبنفس المنهجية يقوم الفيلم بالتعتيم على أسماء الشخصيات فلا يُشار لهم إلا بالضمائر، فهم يمثلون ما هو أشمل من أنفسهم.

يقدم أرونوفسكي ساعة أولى من الفيلم بتكوينات مسرحية مرتبة وأنيقة، تنساب في أرجاء المنزل بجمال يصاحبه التوتر، ساعد في ذلك انضباط وتألق الكاست التمثيلي بأكمله. والساعة الأخرى هي كابوس مكتمل الأركان. ليست أحداث الفيلم وحدها هي ما يزداد حدة بمُعدل جنوني، أيضا تفاصيل الأنوثة لدى "جينيفر لورانس" وجمال مفاتنها يبرز كلما سار الفيلم نحو نقطة النهاية (تطلب منها إحدى الشخصيات بخبث وغيرة أن تغطي صدرها العاري في أحد المشاهد)، وكأن إبراز الأم لجمالها هو أحد الآليات الدفاعية الاستعطافية من الطبيعة ضد المنتهكين؛ لتذكرهم بمزاياها التي هم مقبلون على دحرها، ولتذكير الزوج بكونها مازالت قادرة على العطاء، وأنه ليس بحاجة لإشباع غروره بنيل إعجاب مجموعة من الغرباء المزعجين، فهي أفضل وهي تكفيه.

الكاميرا تصاحب الأم طوال أحداث الفيلم لنرى كل الأمور بعينها، نرى كل اللامعنى، وكل اللامنطق الذي يُمارس ضدها؛ كي لا نلوم ردة فعلها النهائية، أو حتى نعيب على الطبقة القشرية من قصة الفيلم (حكاية الزوج والزوجة) هشاشتها وغرابة الدوافع لدى شخصياتها واتسامها باللامعقولية إلا بعد إدراك ماوراءها من رموز. فالعبث واللامعنى بالطبقة القشرية من هذه القصة لا يمكن فصله بأي حال عن القصة بعمقها ورمزياتها، هما كيانٌ واحد، وما العالم السطحي من تلك القصة، وأي قصة، بل ومجمل حياتنا اليومية التي تُلهم القصص سوى تراكمات من العبث والحماقة التي قامت بتغذية الطبقات الأعمق في قصة "أم".

0 التعليقات:

  
نشر هذا المقال في عدد شهر سبتمبر 2016 من مجلة الدوحة الثقافية

كان المخرج المصرى الراحل "محمد خان" دائم التعبير عن ولعه بسينما الإيطالى "أنطونيونى" أحد أعمدة سينما الحداثة الأوروبية فى الستينيات. يقول خان فى كتابه، الذى صدر العام الماضى بعنوان "مخرج على الطريق"، أنه فى اليوم الذى شاهد فيلم "المغامرة" لأنطونيونى تأكد أن صناعة الأفلام هى الشىء الذى يريد فعله بقية حياته، وتابع: "دارت الأيام والتقيت بأنطونيونى فى أثناء انعقاد مهرجان قرطاج السينمائى عام 1984 وذكّرت أنطونيونى بمقولة قرأتها له تصرح بأن كل مخرج، فعلياً، يخرج فيلماً أوحد فى حياته، وأن بقية الأفلام ليست إللا تكرارًا لهذا الفيلم. وكان رده طريفًا وساخرًا حين قال: إذا كان المخرج مجتهدا بما فيه الكفاية فربما يقدم فيلمين بدلاً من فيلم واحد."

نظرية أنطونيونى وإن بدت متطرفة يظل بها جزء من الحقيقة، فهناك عامل مشترك يجمع بين أفلام كل مخرج، هذا العامل هو جزء من شخصيته، لمحة شكّلت وجدانه، أو هَمّ ظل يؤرقه ونتج منه فنه، فتكرر رغمًا عنه مع توالى أعماله. ولا شكّ بأن محمد خان كان أحد المخرجين المُجتهدين فى عُرف أنطونيونى، أى الذين يصنعون الفيلمين بدل الواحد، أو بكلمات أخرى، يسهل تقسيم مشواره الفنى إلى توجُهين، فأفلام النصف الأول من هذا المشوار تنتمى لنوع السينما المهمومة بقضية ذات بُعد سياسى، وذلك منذ أول أفلامه فى أواخر السبعينات وحتى مطلع التسعينات. أما التوجه الثانى ففى النصف الأخير من مشواره، حيث سينما أكثر تصالحا وزهدا .. سينما تخطت حاجز القضية واكتفت بكونها مجرد قصص إنسانية تقدم البهجة أو المتعة أو الشجن وعلى وعى بأنها لا تستطيع تغيير العالم، بما فى ذلك فيلمه "أيام السادات - 2001"، حيث يقول خان أنه لم يخرجه إللا من أجل صديقه ورفيق نجاحاته "أحمد زكى"، وأن ما شدّه بالقصة هو ثراء الشخصية وبُعدها الإنسانى، وكانت رؤيته خالية من أى أغراض سياسية.


اختصاراً، لو اعتبرنا مشوار خان السينمائى رجلاً فسيكون تجسيداً للمقولة المنسوبة إلى "وينستون تشيرشل": "إذا لم يكن المرء اشتراكياً فى العشرينات من عُمره فهو بلا قلب، وإذا لم يتحول إلى يمينى فى أربعيناته فهو بلا عقل". وقد كان خان يرى، فعلا، بالفكرة الاشتراكية نوعاً من الرومانسية، ففى أحد حواراته المصورة عندما يُسأل عن ميوله الاشتراكية، يجيب: "الفنان يجب أن يكون اشتراكيًا، ينبغى أن يؤمن بعدالة اجتماعية، وأن يثير الفقراء اهتمامه، فالاشتراكية تعطى الفنان رؤية عاطفية للعالم لأنها متجردة من القسوة". ربما هناك كثير من الأمثلة التى تدحض تعميم خان، منها مثلا المخرج الأميركى "كلينت إيستوود" الذى صنع أفلاماً شديدة الإنسانية رغم أنه اشتهر بكونه يمينى صرف، لكن ما يهمنا فى تصريح خان أنه يؤكد على ميوله هو على الأقل.

أتوقف أمام مقطع آخر من كتابه المذكور، يحكى فيه ذكرياته وهو شاب فى إنجلترا بمطلع ستينيات القرن الماضى، فيقول: "... تلك كانت أيام الموجة الجديدة فى السينما الفرنسية والتشيكية والانجليزية وغيرها. كلها التقت فى لندن قبل أن تبتلعها هوليوود مع وصول ماكدونالد وبيتزا هات و32 صنف أيس كريم." نلاحظ فى الحديث نبرة ازدراء للثقافة الاستهلاكية والرأسمالية ورموزها، وكيف يراها كانت سبباً فى تفسخ القيم وانحدار الفن. ولعل تلك النبرة كانت الهمّ السياسى الرئيسى الذى غلب على أفلامه فى النصف الأول من مشواره، هذا النصف الذى تزامن مع قرارات الرئيس السادات بالانفتاح الاقتصادى لمصر على العالم والحدّ من السياسات الاشتراكية. وبدأ هذا الهمّ فى أعمال خان المُبكرة مفتقداً للنضج والتسييس الكافى، واقتصر على احتفاء بالطبقة العاملة والبسطاء، مقابل غضب تجاه طبقة الأثرياء وخاصة باقتران هذا الثراء بالنفوذ والسلطة والفساد، ويظهر ذلك فى أفلام مثل "ضربة شمس – 1978" و "موعد على العشاء – 1981".

أول الأفلام التى يمكننا القول بأن الهمّ بها قد تحول من مجرد انفعال إنسانى إلى بذرة رؤية سياسية ناضجة حول أسباب الظلم الاجتماعى، كان فيلم "نص أرنب – 1982"، الفيلم الذى يروى قصة مجموعة من البشر من مختلف الطبقات تتصارع على مبلغ مسروق، هذا المبلغ كان رمزاً للثروة العامة، فكل منهم يريد الاغتناء على حساب الآخر، وفى سبيل ذلك يدخلون فى معارك عبثية طاحنة لا يخرج منها فى النهاية أحدٌ فائزاً. المشهد الأبرز فى هذا الفيلم كان حين دلفت العصابة لتفتيش منزل "يوسف"، مُمثل الطبقة المتوسطة الذى تورط فى الصراع على المبلغ (الثروة)، وقتها ظنّت الأم أنهم أفراد البوليس السياسى كما جرت العادة قديماً، فصاحت بهم أن ولدها يوسف ليست لديه ميول سياسية! ولم تكن ما قالته مجرد جُملة عابرة يوحى فيها صانع الفيلم بسذاجة الأم، بل نص تحتى يريد القول أنه فى عصر الانفتاح ورفع يد الدولة عن الاقتصاد أصبحت عصابات المال المسيطرة على العالم هى الوجه الجديد من الاستبداد.


 

تستمر تلك النبرة مع فيلم خان التالى "الحريف -1983"، عن حياة لاعب الكُرة الهاوى بالحىّ الشعبى الفقير، ويذكرنى هذا الفيلم بالمقولة الشهيرة: "نحن نعمل لنجنى المال كى نستطيع الحياة، لكن فى خضم التكالب على جنى هذا المال، لا نجد الوقت للحياة"، هذا تحديداً ما يقدمه خان فى "الحريف"، فهناك خياران، إما اللعب كرمز للحياة وإما الصراع العبثى على الثروة، يحدث ذلك أيضاً على إيقاع الانفتاح الاقتصادى وأعراضه الجانبية من شيوع التسلّق والاستغلال والغش، فنجد "شعبان" الذى ترك اللعب واتجه لسرقة وتهريب السيارات حتى كوّن إمبراطوريته، وهناك "سلامة" الذى ترك اللعب أيضاً واتجه للمنطقة الاقتصادية الحرة "بورسعيد" للعمل كتاجر شنطة، ليبقى بطل الفيلم "فارس" فى صراع داخلى/خارجى حول الخيارين، فنخرج كمشاهدين فى النهاية بصورة واضحة عن حجم التفسخ فى القيم الذى تسببت به الرأسمالية، وتحويلها الإنسان إلى ترس فى ماكينة (كما يجرى التعبير الماركسى الشهير)، وقد كان بطل الفيلم يعمل (حرفياً) على ماكينة فى أحد المصانع قبل أن يُرفد لأنه لم يستطع مجاراة قوانين الواقع.


ويمتد رصد تفسخ القيم كنتيجة للسياسات الاقتصادية فى أفلام خان التالية وأبرزها "خرج ولم يعُد – 1984"، الذى آثر فيه هذه المرة حل الهروب من العاصمة بصراعاتها وضوضائها وفسادها وتلوثها وقبحها وجشعها، والرجوع للطبيعة، حيث عالم نقى وبشر تتحدث لغة أخرى غير لغة المال. لكنه يعود مجدداً للمواجهة بفيلم "عودة مواطن – 1986"، عن ذلك الأخ الأكبر الذى يرجع لمصر بعد سنوات من العمل فى الخليج مُدخراً مبلغ وقدره من المال، ويسعى به لدعم أشقائه الأصغر، لكنه يُفاجأ بعالم جديد غير الذى تركه، عالم أشبه بغابة يسعى كل فرد فيها للصعود على جثة الآخر، فيكتشف فى أيام قليلة من عودته أنه تعرض لعملية نصب مالى، وأن حبيبته القديمة تركته وتزوجت رجلاً ثرى يكبُرها بقدر كبير من العُمر، وأن محل عمله القديم تحول إلى "كباريه"، وأن عصر الوظائف قد انتهى، وانهارت الطبقة الوسطى لدرجة أن بناتها أصبحن يعملن نادلات فى الفنادق مثل أخته الصغرى، ولم يعُد أمام الشباب طريق سوى التغافل بتعاطى المخدرات أو الانخراط فى أنشطة سياسية خطرة لتغيير الأوضاع.

فى هذا الفيلم قيلت بعض الجُمل على لسان "مهدى" الأخ الأصغر لشاكر، يمكنها تلخيص هواجس وهموم خان عبر النصف الأول من مسيرته السينمائية، فمهدى العدمى المتشائم (الواقعى) ينصح أخاه شاكر فى نهاية الفيلم بترك القاهرة والعودة للخليج إذا لم يكن مستعداً للقبول بقيم المجتمع المصرى الجديد وإيجاد سكة للتسلق والاستغلال مثلما فعلت أختهم "فوزية". هذه الرؤية تتكرر بفيلم تالى لخان هو "سوبر ماركت – 1990"، ومن عنوانه يطرح مفهوم تحول العالم إلى سوق، والبشر إلى سلع، وتتكرر جملة مهدى السابقة، هذه المرة، على لسان شخصية عزمى الرجل فاحش الثراء الذى يرى أنه لا سبيل للارتقاء الاقتصادى سوى بتقديم تنازلات أخلاقية.

ما يميّز المحتوى السياسى فى الأعمال السابقة شيئان: أولاً عدم المُباشرة، فالسياسة كما أسميها فى عنوان هذا المقال مجرد "نبرة"، أى أنها لم تتحول بَعد لصوت أو لغة صريحة بالمقارنة، مثلاً، مع أفلام "عاطف الطيب" رفيق جيل خان، والذى شغله نفس همّ خان السياسى، ولكنه عبّر عنه فى أعماله بشكل أكثر مباشرة من خان. وثانياً أن ذلك المحتوى غير مقيد بالظرف المحلى ويتسم بصبغة عالمية يمتد الشعور بها من القاهرة إلى نيويورك إلى هونج كونج، أو أى بقعة جغرافية طغت بها الثقافة الاستهلاكية على حياة الإنسان. لم يقدم خان نقداً للسلطة المصرية بعينها أو به صبغة محلية حصرية سوى فى فيلم "زوجة رجل مهم – 1987"، عن ضابط الشرطة هشام (أحمد زكى) الذى يستغل نفوذه ويتورط فى ممارسات يُقال أنها ضد القانون فيُفصل على إثرها من عمله. ويُمكن اعتبار هذا الفيلم نزوة شخصية من خان، حيث قدمه على خلفية مشاجرة فعلية حدثت بينه وبين ضابط شرطة فقرر بعدها أن ينتقم منه بفيلم.

 
لكن يبدو أن شخصنة الخلاف داخل فيلم نتج عنها رؤية مُتحاملة لشخصية هشام أو لتعقيد الأوضاع فيما عُرف بانتفاضة 18 يناير 1977، التى قامت ضد قرار سيادى بغلاء الأسعار، وهى الانتفاضة التى شارك الضابط هشام فى قمعها. هذا التحامل رصده الناقد "سمير فريد" فى مقال هجومى على الفيلم نُشر بمجلة "القاهرة" عام 1988، كرّسه فى تفنيد كل الحجج ضد هشام، يقول فى مقطع من المقال: "المشكلة هنا أن ضابط الشرطة يمارس عمله إزاء مظاهرات وصلت لحد التخريب كما جاء على لسان "منى"... حتى استخدام هشام لزوجته فى الحصول على معلومات عن زملائها يأتى فى سياق ممارسته لعمله... وهذا الموقف من هشام ضد زوجته يعنى أنه عندما يختار بين الواجب والعاطفة يختار الواجب مثل أبطال الدراما الكلاسيكية النبلاء، على عكس ما يتصور صناع الفيلم. فالنذالة لا تكون إللا حين تكون الشخصية على وعى تام بالفعل الذى يوصفها بالنذالة، وقناعة هشام هنا والتى لا ينكرها الفيلم أنه يفعل ذلك من أجل "إنقاذ البلد" دون أى قدر من الادعاء أو الكذب على نفسه، فما الذى يجعلنا كتمفرجين نكره هشام؟"

ويتابع فريد: "تظل نصيحة بريخت صحيحة تماماً عندما قال لا تصنعوا الأفلام السياسية بطريقة غير سياسية"، حسناً، إن اتفقت مع فريد فى أن هناك تحامل على شخصية هشام وأنه لم يستحق فعلاً تلك النهاية المأساوية، فإنى أختلف معه فى كون ذلك سبباً لكُره الفيلم، لأنه مَبنى على افتراض غير دقيق بأن الحياة، فى الدراما أو الواقع، لابد وأن تكون عادلة. أما السبب الحقيقي لعظمة هذا الفيلم ليس مصداقيته السياسية، بل كونه دراسة حالة شديدة العمق عن الهوس المهني وجنون العظمة.

النبرة السياسية في سينما "محمد خان"

كتب Amgad Gamal  |  نشر في :  5:02 م 0 تعليقات

  
نشر هذا المقال في عدد شهر سبتمبر 2016 من مجلة الدوحة الثقافية

كان المخرج المصرى الراحل "محمد خان" دائم التعبير عن ولعه بسينما الإيطالى "أنطونيونى" أحد أعمدة سينما الحداثة الأوروبية فى الستينيات. يقول خان فى كتابه، الذى صدر العام الماضى بعنوان "مخرج على الطريق"، أنه فى اليوم الذى شاهد فيلم "المغامرة" لأنطونيونى تأكد أن صناعة الأفلام هى الشىء الذى يريد فعله بقية حياته، وتابع: "دارت الأيام والتقيت بأنطونيونى فى أثناء انعقاد مهرجان قرطاج السينمائى عام 1984 وذكّرت أنطونيونى بمقولة قرأتها له تصرح بأن كل مخرج، فعلياً، يخرج فيلماً أوحد فى حياته، وأن بقية الأفلام ليست إللا تكرارًا لهذا الفيلم. وكان رده طريفًا وساخرًا حين قال: إذا كان المخرج مجتهدا بما فيه الكفاية فربما يقدم فيلمين بدلاً من فيلم واحد."

نظرية أنطونيونى وإن بدت متطرفة يظل بها جزء من الحقيقة، فهناك عامل مشترك يجمع بين أفلام كل مخرج، هذا العامل هو جزء من شخصيته، لمحة شكّلت وجدانه، أو هَمّ ظل يؤرقه ونتج منه فنه، فتكرر رغمًا عنه مع توالى أعماله. ولا شكّ بأن محمد خان كان أحد المخرجين المُجتهدين فى عُرف أنطونيونى، أى الذين يصنعون الفيلمين بدل الواحد، أو بكلمات أخرى، يسهل تقسيم مشواره الفنى إلى توجُهين، فأفلام النصف الأول من هذا المشوار تنتمى لنوع السينما المهمومة بقضية ذات بُعد سياسى، وذلك منذ أول أفلامه فى أواخر السبعينات وحتى مطلع التسعينات. أما التوجه الثانى ففى النصف الأخير من مشواره، حيث سينما أكثر تصالحا وزهدا .. سينما تخطت حاجز القضية واكتفت بكونها مجرد قصص إنسانية تقدم البهجة أو المتعة أو الشجن وعلى وعى بأنها لا تستطيع تغيير العالم، بما فى ذلك فيلمه "أيام السادات - 2001"، حيث يقول خان أنه لم يخرجه إللا من أجل صديقه ورفيق نجاحاته "أحمد زكى"، وأن ما شدّه بالقصة هو ثراء الشخصية وبُعدها الإنسانى، وكانت رؤيته خالية من أى أغراض سياسية.


اختصاراً، لو اعتبرنا مشوار خان السينمائى رجلاً فسيكون تجسيداً للمقولة المنسوبة إلى "وينستون تشيرشل": "إذا لم يكن المرء اشتراكياً فى العشرينات من عُمره فهو بلا قلب، وإذا لم يتحول إلى يمينى فى أربعيناته فهو بلا عقل". وقد كان خان يرى، فعلا، بالفكرة الاشتراكية نوعاً من الرومانسية، ففى أحد حواراته المصورة عندما يُسأل عن ميوله الاشتراكية، يجيب: "الفنان يجب أن يكون اشتراكيًا، ينبغى أن يؤمن بعدالة اجتماعية، وأن يثير الفقراء اهتمامه، فالاشتراكية تعطى الفنان رؤية عاطفية للعالم لأنها متجردة من القسوة". ربما هناك كثير من الأمثلة التى تدحض تعميم خان، منها مثلا المخرج الأميركى "كلينت إيستوود" الذى صنع أفلاماً شديدة الإنسانية رغم أنه اشتهر بكونه يمينى صرف، لكن ما يهمنا فى تصريح خان أنه يؤكد على ميوله هو على الأقل.

أتوقف أمام مقطع آخر من كتابه المذكور، يحكى فيه ذكرياته وهو شاب فى إنجلترا بمطلع ستينيات القرن الماضى، فيقول: "... تلك كانت أيام الموجة الجديدة فى السينما الفرنسية والتشيكية والانجليزية وغيرها. كلها التقت فى لندن قبل أن تبتلعها هوليوود مع وصول ماكدونالد وبيتزا هات و32 صنف أيس كريم." نلاحظ فى الحديث نبرة ازدراء للثقافة الاستهلاكية والرأسمالية ورموزها، وكيف يراها كانت سبباً فى تفسخ القيم وانحدار الفن. ولعل تلك النبرة كانت الهمّ السياسى الرئيسى الذى غلب على أفلامه فى النصف الأول من مشواره، هذا النصف الذى تزامن مع قرارات الرئيس السادات بالانفتاح الاقتصادى لمصر على العالم والحدّ من السياسات الاشتراكية. وبدأ هذا الهمّ فى أعمال خان المُبكرة مفتقداً للنضج والتسييس الكافى، واقتصر على احتفاء بالطبقة العاملة والبسطاء، مقابل غضب تجاه طبقة الأثرياء وخاصة باقتران هذا الثراء بالنفوذ والسلطة والفساد، ويظهر ذلك فى أفلام مثل "ضربة شمس – 1978" و "موعد على العشاء – 1981".

أول الأفلام التى يمكننا القول بأن الهمّ بها قد تحول من مجرد انفعال إنسانى إلى بذرة رؤية سياسية ناضجة حول أسباب الظلم الاجتماعى، كان فيلم "نص أرنب – 1982"، الفيلم الذى يروى قصة مجموعة من البشر من مختلف الطبقات تتصارع على مبلغ مسروق، هذا المبلغ كان رمزاً للثروة العامة، فكل منهم يريد الاغتناء على حساب الآخر، وفى سبيل ذلك يدخلون فى معارك عبثية طاحنة لا يخرج منها فى النهاية أحدٌ فائزاً. المشهد الأبرز فى هذا الفيلم كان حين دلفت العصابة لتفتيش منزل "يوسف"، مُمثل الطبقة المتوسطة الذى تورط فى الصراع على المبلغ (الثروة)، وقتها ظنّت الأم أنهم أفراد البوليس السياسى كما جرت العادة قديماً، فصاحت بهم أن ولدها يوسف ليست لديه ميول سياسية! ولم تكن ما قالته مجرد جُملة عابرة يوحى فيها صانع الفيلم بسذاجة الأم، بل نص تحتى يريد القول أنه فى عصر الانفتاح ورفع يد الدولة عن الاقتصاد أصبحت عصابات المال المسيطرة على العالم هى الوجه الجديد من الاستبداد.


 

تستمر تلك النبرة مع فيلم خان التالى "الحريف -1983"، عن حياة لاعب الكُرة الهاوى بالحىّ الشعبى الفقير، ويذكرنى هذا الفيلم بالمقولة الشهيرة: "نحن نعمل لنجنى المال كى نستطيع الحياة، لكن فى خضم التكالب على جنى هذا المال، لا نجد الوقت للحياة"، هذا تحديداً ما يقدمه خان فى "الحريف"، فهناك خياران، إما اللعب كرمز للحياة وإما الصراع العبثى على الثروة، يحدث ذلك أيضاً على إيقاع الانفتاح الاقتصادى وأعراضه الجانبية من شيوع التسلّق والاستغلال والغش، فنجد "شعبان" الذى ترك اللعب واتجه لسرقة وتهريب السيارات حتى كوّن إمبراطوريته، وهناك "سلامة" الذى ترك اللعب أيضاً واتجه للمنطقة الاقتصادية الحرة "بورسعيد" للعمل كتاجر شنطة، ليبقى بطل الفيلم "فارس" فى صراع داخلى/خارجى حول الخيارين، فنخرج كمشاهدين فى النهاية بصورة واضحة عن حجم التفسخ فى القيم الذى تسببت به الرأسمالية، وتحويلها الإنسان إلى ترس فى ماكينة (كما يجرى التعبير الماركسى الشهير)، وقد كان بطل الفيلم يعمل (حرفياً) على ماكينة فى أحد المصانع قبل أن يُرفد لأنه لم يستطع مجاراة قوانين الواقع.


ويمتد رصد تفسخ القيم كنتيجة للسياسات الاقتصادية فى أفلام خان التالية وأبرزها "خرج ولم يعُد – 1984"، الذى آثر فيه هذه المرة حل الهروب من العاصمة بصراعاتها وضوضائها وفسادها وتلوثها وقبحها وجشعها، والرجوع للطبيعة، حيث عالم نقى وبشر تتحدث لغة أخرى غير لغة المال. لكنه يعود مجدداً للمواجهة بفيلم "عودة مواطن – 1986"، عن ذلك الأخ الأكبر الذى يرجع لمصر بعد سنوات من العمل فى الخليج مُدخراً مبلغ وقدره من المال، ويسعى به لدعم أشقائه الأصغر، لكنه يُفاجأ بعالم جديد غير الذى تركه، عالم أشبه بغابة يسعى كل فرد فيها للصعود على جثة الآخر، فيكتشف فى أيام قليلة من عودته أنه تعرض لعملية نصب مالى، وأن حبيبته القديمة تركته وتزوجت رجلاً ثرى يكبُرها بقدر كبير من العُمر، وأن محل عمله القديم تحول إلى "كباريه"، وأن عصر الوظائف قد انتهى، وانهارت الطبقة الوسطى لدرجة أن بناتها أصبحن يعملن نادلات فى الفنادق مثل أخته الصغرى، ولم يعُد أمام الشباب طريق سوى التغافل بتعاطى المخدرات أو الانخراط فى أنشطة سياسية خطرة لتغيير الأوضاع.

فى هذا الفيلم قيلت بعض الجُمل على لسان "مهدى" الأخ الأصغر لشاكر، يمكنها تلخيص هواجس وهموم خان عبر النصف الأول من مسيرته السينمائية، فمهدى العدمى المتشائم (الواقعى) ينصح أخاه شاكر فى نهاية الفيلم بترك القاهرة والعودة للخليج إذا لم يكن مستعداً للقبول بقيم المجتمع المصرى الجديد وإيجاد سكة للتسلق والاستغلال مثلما فعلت أختهم "فوزية". هذه الرؤية تتكرر بفيلم تالى لخان هو "سوبر ماركت – 1990"، ومن عنوانه يطرح مفهوم تحول العالم إلى سوق، والبشر إلى سلع، وتتكرر جملة مهدى السابقة، هذه المرة، على لسان شخصية عزمى الرجل فاحش الثراء الذى يرى أنه لا سبيل للارتقاء الاقتصادى سوى بتقديم تنازلات أخلاقية.

ما يميّز المحتوى السياسى فى الأعمال السابقة شيئان: أولاً عدم المُباشرة، فالسياسة كما أسميها فى عنوان هذا المقال مجرد "نبرة"، أى أنها لم تتحول بَعد لصوت أو لغة صريحة بالمقارنة، مثلاً، مع أفلام "عاطف الطيب" رفيق جيل خان، والذى شغله نفس همّ خان السياسى، ولكنه عبّر عنه فى أعماله بشكل أكثر مباشرة من خان. وثانياً أن ذلك المحتوى غير مقيد بالظرف المحلى ويتسم بصبغة عالمية يمتد الشعور بها من القاهرة إلى نيويورك إلى هونج كونج، أو أى بقعة جغرافية طغت بها الثقافة الاستهلاكية على حياة الإنسان. لم يقدم خان نقداً للسلطة المصرية بعينها أو به صبغة محلية حصرية سوى فى فيلم "زوجة رجل مهم – 1987"، عن ضابط الشرطة هشام (أحمد زكى) الذى يستغل نفوذه ويتورط فى ممارسات يُقال أنها ضد القانون فيُفصل على إثرها من عمله. ويُمكن اعتبار هذا الفيلم نزوة شخصية من خان، حيث قدمه على خلفية مشاجرة فعلية حدثت بينه وبين ضابط شرطة فقرر بعدها أن ينتقم منه بفيلم.

 
لكن يبدو أن شخصنة الخلاف داخل فيلم نتج عنها رؤية مُتحاملة لشخصية هشام أو لتعقيد الأوضاع فيما عُرف بانتفاضة 18 يناير 1977، التى قامت ضد قرار سيادى بغلاء الأسعار، وهى الانتفاضة التى شارك الضابط هشام فى قمعها. هذا التحامل رصده الناقد "سمير فريد" فى مقال هجومى على الفيلم نُشر بمجلة "القاهرة" عام 1988، كرّسه فى تفنيد كل الحجج ضد هشام، يقول فى مقطع من المقال: "المشكلة هنا أن ضابط الشرطة يمارس عمله إزاء مظاهرات وصلت لحد التخريب كما جاء على لسان "منى"... حتى استخدام هشام لزوجته فى الحصول على معلومات عن زملائها يأتى فى سياق ممارسته لعمله... وهذا الموقف من هشام ضد زوجته يعنى أنه عندما يختار بين الواجب والعاطفة يختار الواجب مثل أبطال الدراما الكلاسيكية النبلاء، على عكس ما يتصور صناع الفيلم. فالنذالة لا تكون إللا حين تكون الشخصية على وعى تام بالفعل الذى يوصفها بالنذالة، وقناعة هشام هنا والتى لا ينكرها الفيلم أنه يفعل ذلك من أجل "إنقاذ البلد" دون أى قدر من الادعاء أو الكذب على نفسه، فما الذى يجعلنا كتمفرجين نكره هشام؟"

ويتابع فريد: "تظل نصيحة بريخت صحيحة تماماً عندما قال لا تصنعوا الأفلام السياسية بطريقة غير سياسية"، حسناً، إن اتفقت مع فريد فى أن هناك تحامل على شخصية هشام وأنه لم يستحق فعلاً تلك النهاية المأساوية، فإنى أختلف معه فى كون ذلك سبباً لكُره الفيلم، لأنه مَبنى على افتراض غير دقيق بأن الحياة، فى الدراما أو الواقع، لابد وأن تكون عادلة. أما السبب الحقيقي لعظمة هذا الفيلم ليس مصداقيته السياسية، بل كونه دراسة حالة شديدة العمق عن الهوس المهني وجنون العظمة.

0 التعليقات:

 
نشر هذا المقال بعدد يناير 2017 من مجلة الثقافة الجديدة

أليس الفن هو العامل الذى يميز الإنسان عن الحيوان؟ أو هكذا استقر الرأى بعد زمن طويل ظنّ فيه الفلاسفة أن عوامل كاللغة والعقل هى ما تميزنا، ثم سقط هذا الظن باكتشاف لغات تواصل تجمع بعض الحيوانات، وملاحظة سلوكيات عقلانية تتمتع بها بعض الحيوانات أيضاً، فالحمار مثلا يستطيع استخدام عقله لمعرفة الطريق إلى منزل صاحبه، وذلك يُعد نشاطا عقلانيا، بينما هو عاجز عن تأليف سيمفونية موسيقية أو إبداع ما يمت للفن بصلة.

هكذا صمد الفن بكونه السمة الوحيدة التى تميز البشر، وليس فقط فيما يخص حصريته كنشاط اقتصرت ممارسته عليهم، ولكن فى سيكولوجيته لدى طرفى المعادلة الفنية، أى المتذوق والمبدع، ففى تذوق الفن رغبة دفينة باكتشاف الإنسان لذاته وللآخرين، وفى صناعته حب أعمى من الإنسان (المبدع) للإنسان (المتلقى) ورغبة لا مشروطة فى إمتاعه والتواصل الحسّى معه. المعادلة برُمّتها تصب فى نهر الحميمية الإنسانية والاحتفاء بهذا الكائن.

ما سبق هو ما كنت أعتقده قبل التمعن فى مشاهدة سينما الإنجليزى "ألفريد هيتشكوك"، فإن كان هناك شىء آخر يميز هذا الرجل بجانب أستاذيته فى صنع نوعية أفلام الهلع والإثارة، فسيكون هذا الشىء هو ازدراء الإنسان. هيتشكوك هو صانع الأفلام التى لا تجد بها أثرا للشخصية التى يصفها منظرو كتابة السيناريو بالمُحببة likeable، فالشخصيات فى أفلامه مُنفرة، مغرورة، مريضة، عاجزة، مهووسة، متطفلة، ومثيرة للشفقة. هيتشكوك هو صاحب العدسة التى تتغزل فى عرض تفاصيل فزع وضعف وأوجاع البشر وتتوقف ببرود أمام نهش لحمهم، أما سيل دمائهم فيكفى تيار رقيق من مياه الصنبور لإزالة آثاره، وكأن لم تكن، كما يحدث فى ذلك المشهد الأيقونى من فيلمه "معتوه - Psycho".

البطل فى أفلام هيتشكوك هو الحبكة ولا صوت آخر يعلو فوقها، بكل تلاعبها وتآمرها وتعريتها للشخصيات والعبث بمصائرهم، وهو مسئول عن ذلك بفخر سادي، فيصرح فى أحد أحاديثه قائلاً : "فى الأفلام الروائية المخرج هو الرب"، واضعاً نفسه فى منزلة أعلى من شخصياته بنبرة تفتقد لأية عاطفة أو مؤازرة تجاههم. كل ذلك يجعلنى فى حيرة، فكيف لهذا الفنان الذى وصل إبداعه لدرجة العبقرية أن يخاصم مبدأ أساسى يقوم عليه الفن وهو حب الإنسان.

يصل الأمر إلى الذروة فى فيلمه "الطيور – The Birds" من إنتاج عام 1963، وهو الفيلم الذى يعلن فيه هيتشكوك الحرب على الإنسان صراحة. تدور أحداث هذا الفيلم المقتبس من قصة قصيرة للكاتبة الإنجليزية "دافنى دو مورييه"، حول "ميلانى" الفتاة الثرية المُرفهة التى تسافر من سان فرانسيسكو إلى بلدة ساحلية صغيرة خلف رجل يعجبها، وبمجرد أن تطأ قدماها أرض البلدة تحدث ظاهرة أبوكاليبسية فريدة من نوعها، حيث تقوم الطيور، بكافة أنواعها، بالاحتشاد لمهاجمة البشر بغرض القضاء عليهم، لسبب يبدو، حتى بعد تترات النهاية، غامضاً.

وازدراء الإنسان فى هذا الفيلم يختلف عن أى فيلم آخر قدمه هيتشكوك فى كونه ازدراءً مُركّباً ومتعدد الطبقات، فهيتشكوك فى هذا الفيلم لم يكتف بعقاب الإنسان على سلوكياته المتغطرسة تجاه الطبيعة بجعله فريسة للطيور، بل وأيضاً يسخر من غباء شخصياته لأنهم وحتى اللحظة الأخيرة مستمرون فى أخذ الطبيعة كأمر مُسلّم به ولا يدرون الخطأ الأصلى الذى ارتكبوه. وأخيراً فهو يسخر من الجمهور نفسه، أو قطاع كبير ممن شغلهم السؤال الخاطىء عن الفيلم، وشاركوا الشخصيات فشلها فى تحديد ما وراء الكارثة التى تحدث.

يبدأ الفيلم بتتابع مشهدى داخل مَتجر ضخم بمدينة سان فرانسيسكو متخصص فى بيع الحيوانات، يُظهر المشهد هيتشكوك نفسه (ضيف شرف كالعادة) وهو خارج من المتجر يجرّ فى يده بعض الكلاب الأليفة، هذا قبل أن تلتقى ميلانى بالرجل الوسيم "ميتش برينر" فى طابق علوى من المَتجر خاص ببيع الطيور بأنواعها، ثم يدور بينهما حوار ثرثارى عن الطيور وسبب وضعها داخل أقفاص، أثناء هذا الحوار يشرع أحد الطيور فى الهرب من قفصه ثم ينجح البطلان فى إعادته للقفص مرة أخرى.
ما نخرج به من ذلك التتابع، على الصعيد الدرامى، هو أن ميتش يريد شراء بعض الببغاوات كهدية لأخته الصغرى، وأن ميلانى مُعجبة به، حتى أنها ذهبت ورائه إلى بلدته الصغيرة على خليج بوديجا، مُحضرة معها الببغاوات التى أرادها، وتركتها فى منزله دون علمه؛ كلفتة ظريفة أو نوع من المفاجأة السارة للرجل الذى تحبه. أما ما نخرج به، على الصعيد الرمزى، فهو نقد للإنسان ككائن متسلط على الطبيعة ومستعبد للكائنات الأخرى، فضيف الشرف يجر الكلاب، والمتجر يحبس الطيور، وميلانى تستغلهم كأداة فى خدمة نزواتها العاطفية.

 
إذن الحيوانات عموماً، والطيور خصوصاً، فى التتابع الأوّلى من الفيلم لا تملك من أمرها شيئاً ومصيرها خاضع بشكل تام لأهواء بنى البشر. وكان هذا السبب كافيا لثورة الطيور وتوّحشها القادم ضد البشر، بداية من ذلك الطائر الذى ينقض على ميلانى فى البحيرة وكأنه ينتقم للببغاوات، ووصولاً للهجمات الأكثر ملحمية وقوة وبخاصة حين تهاجم أسراب الغربان أطفال المدرسة الهاربين فى أحد أعتى مشاهد الفزع بتاريخ السينما. وإنى مؤمن بأن هناك تعمّد بإدراج ضحايا من الأطفال؛ انحيازاً لمبدأ المعاملة بالمثل، حيث أن البشر أنفسهم لا يفرقون فى استعبادهم وغطرستهم على الكائنات الأخرى بحسب العُمر، فلماذا على الطيور أن تُفرق فى انتقامها بين بشرى بالغ وبشرى طفل؟! توجد هنا نبرة تفيد بأن التصنيف العمرى والجنسى هو اختراع بشرى بلا معنى، فالحقيقة أن جميع الكائنات تتألم وتتأذى.

أما المستوى الثانى من عقاب هيتشكوك، فكان ضد تسلط البشر على بشر مثلهم، وتحديداً شخصية الأم، فهى تخاف على ولدها ميتش بدرجة مهووسة وتحاول إبقائه دائراً فى فلكها إلى الأبد، وهو بذلك لا يختلف كثيراً عن الطيور داخل أقفاصها. لذا فكان عقاب هذه الأم المتسلطة مضاعفاً بأن تعيش حالة ذعر مزدوجة، أولها ذعر على المستوى الوجودى مصدره هجوم الطيور على البشر، وثانيها ذعر على المستوى الشخصى مصدره ميلانى وهى فى طريقها لإيقاع ميتش فى غرامها ومن ثمّ إبعاده عن أمه.
حول هذا الأمر يتحدث هيتشكوك فى كتاب محاوراته مع "فرانسوا تروفو" عن مشهد حب محذوف من الفيلم كان يجمع بين ميلانى وميتش فى منزل الأخير بعد مغادرة أمه فى طريقها لبيت ذلك الفلاح الذى افترست الطيور جسده والتهمت عينيه، فى المشهد المحذوف تراه الأم فتفزع وتغادر سريعاً عائدة لمنزلها لكنها ترتعد من اختلاس رؤية ابنها يمارس الحب مع ميلانى. يقول هيتشكوك أنه أراد إظهار أن تلك السيدة، وبرغم هول رؤيتها لإنسان بلا عيون، إلا أنها ما زالت أماً متسلطة، وأن حُبها لولدها ما زال مسيطراً على كل مشاعرها. وتعد هذه صفعته الساخرة الأولى من شخصياته، فالأم لم تتعظ بعد من ثورة الطبيعة ضد التسلط والاستبداد.

أما الصفعة الأخرى فكانت فى مشهد المطعم، الذى جمع بعض سكان البلدة بعد أن اشتدت هجمات الطيور، فأخذوا فى عقد نقاشات حول الأمر من منظور طبيعى وحربى ودينى وفلسفى، كل منهم يطرح موقفه من الظاهرة البعيد كل البُعد عن اتهام الإنسان بأنه السبب، على إيقاع هذه المناقشات نسمع النادلة تنادى على الطباخ بأن يحضّر بعض شطائر الدجاج، ونسمع الطفل الصغير يسأل أمه بفزع "هل، حقاً، ستأكلنا الطيور يا أماه؟"، يقولها وهو جالس على منضدة مليئة بأصناف الطعام وبداخل مطعم يقدم الطيور كصنف رئيسى فى وجباته كما سمعنا من النادلة، ليكلل هذا التناقض استهزاء هيتشكوك بشخصياته وبالإنسان الذى لم ولن يتعظ أبدا أو يتراجع عن صلفه مهما أمدته الطبيعة بإشارات عن غضبها، فهو ماضٍ فى استغلالها لصالحه والتعاطى معها كشىء مُسلم به، فهو يرى التهام شطائر الدجاج حقاً بديهياً، فى نفس الوقت الذى يرى فى هجوم مضاد للطيور ظاهرة غريبة تستحق التساؤل والتحليل!

يسخر هيتشكوك، أيضاً، من شريحة الجمهور التى سوف تخرج من مشاهدة الفيلم لتطرح نفس السؤال الذى طرحته الشخصيات ولم يُجاب عنه، وهو السؤال الخاطىء: "لماذا تهاجم الطيور؟"، هؤلاء من تعاطوا مع الحالة الاستثنائية التى يقدمها هيتشكوك على أنها حبكة منقوصة الحل، متعطشين لإجابات من نوعية أن المسئول عن هياج الطيور هى الأرواح الشريرة، أو تجارب خطرة يجريها علماء، أو موجات تحكم تبثها كائنات فضائية، أو أن البطل يحلم ... إلى آخره من تلك التفسيرات التى اعتادت أفلام الغموض تقديمها. السخرية هنا أن الجميع منشغل بتفسير هجوم الطيور ولا أحد مهتماً بتفسير هجوم البشر، هذا السؤال المضاد هو ما أراد هيتشكوك أن يسأله الجمهور وهو يعرف أنهم لن يفعلوا لأنهم وببساطة يفكرون من منظور بنى البشر الذى ينتقد الفيلم غرورهم وغبائهم.

لذا فبرغم خطأ السؤال إلا أنه يؤكد نجاح الفيلم فى تقديم رسالته على كافة المستويات. يقول هيتشكوك فى الكتاب السابق ذكره: "في بداية الفيلم يظهر ميتش (رود تايلور) في متجر الطيور ليمسك بطائر الكناري الذي هرب من قفصه، وبعد إعادته للقفص، يقول لميلانى، "إنى أضعك مرة أخرى في قفصك المذهب، يا ميلاني دانيالز." قمت بإضافة هذه الجملة أثناء التصوير لأنني شعرت بتناسبها مع شخصية ميلانى فهى الفتاة الثرية الضحلة. ومع مرور الأحداث، عندما تهاجم الطيور القرية، تلجأ ميلاني للاختباء فى كابينة هاتف زجاجية، وقد أظهرتها كما الطيور في القفص، لكن هذه المرة ليس قفص من الذهب، بل قفص من البؤس، ويُعد ذلك انعكاساً للصراع بين الإنسان والطيور. فالبشر هنا في الأقفاص والطيور فى الخارج. عندما ألتقط شيئا من هذا القبيل، لا أعتقد من المحتمل أن يلاحظه الجمهور." وما قاله هيتشكوك عن هذا المشهد ينطبق أيضاً على مشاهد المطعم والمنزل فى نهاية الفيلم، حيث تحولت كافة الأماكن المغلقة إلى أقفاص للبشر، بعد أن بدأ الفيلم بلفيف من أقفاص الطيور فى المتجر.

الاستنتاج النهائى. إذا كان يرى هيتشكوك أن التهام الدجاج نوعاً من التعدى على كائن آخر وانتهاكاً للطبيعة وليس مجرد مرحلة من مراحل الدائرة الغذائية للكائنات الحية، فهو هنا يسعى نحو نسخة أكثر تطوراً وسمواً للإنسان، يسعى نحو كائن يستحق تلك الهالة والأهمية التى أحاط نفسه بها، كائن لا يأكل ولا يتغوط ولا يمارس الجنس، كائن خالى من كل الصفات غير المرغوب فيها مثل الغباء والمعاناة والمرض كما يذهب تعريف فلسفة أو حركة جديدة تطلق على نفسها ما بعد الإنسانية أو Transhumanism؛ لأن هيتشكوك لم يكن يوماً من المعجبين بالحالة التى عليها إنسان اليوم، تتفق أو تختلف معه، لكن على الأقل تذكّر بأن لولا هذا الإنسان بكل عيوبه لم يكن ليصلنا فنٌ خلّاب كالذى قدمه هيتشكوك، فلولا الإنسان لما شاهدنا "الطيور".

"طيور هيتشكوك" والسؤال الخاطئ

كتب Amgad Gamal  |  نشر في :  4:42 م 0 تعليقات

 
نشر هذا المقال بعدد يناير 2017 من مجلة الثقافة الجديدة

أليس الفن هو العامل الذى يميز الإنسان عن الحيوان؟ أو هكذا استقر الرأى بعد زمن طويل ظنّ فيه الفلاسفة أن عوامل كاللغة والعقل هى ما تميزنا، ثم سقط هذا الظن باكتشاف لغات تواصل تجمع بعض الحيوانات، وملاحظة سلوكيات عقلانية تتمتع بها بعض الحيوانات أيضاً، فالحمار مثلا يستطيع استخدام عقله لمعرفة الطريق إلى منزل صاحبه، وذلك يُعد نشاطا عقلانيا، بينما هو عاجز عن تأليف سيمفونية موسيقية أو إبداع ما يمت للفن بصلة.

هكذا صمد الفن بكونه السمة الوحيدة التى تميز البشر، وليس فقط فيما يخص حصريته كنشاط اقتصرت ممارسته عليهم، ولكن فى سيكولوجيته لدى طرفى المعادلة الفنية، أى المتذوق والمبدع، ففى تذوق الفن رغبة دفينة باكتشاف الإنسان لذاته وللآخرين، وفى صناعته حب أعمى من الإنسان (المبدع) للإنسان (المتلقى) ورغبة لا مشروطة فى إمتاعه والتواصل الحسّى معه. المعادلة برُمّتها تصب فى نهر الحميمية الإنسانية والاحتفاء بهذا الكائن.

ما سبق هو ما كنت أعتقده قبل التمعن فى مشاهدة سينما الإنجليزى "ألفريد هيتشكوك"، فإن كان هناك شىء آخر يميز هذا الرجل بجانب أستاذيته فى صنع نوعية أفلام الهلع والإثارة، فسيكون هذا الشىء هو ازدراء الإنسان. هيتشكوك هو صانع الأفلام التى لا تجد بها أثرا للشخصية التى يصفها منظرو كتابة السيناريو بالمُحببة likeable، فالشخصيات فى أفلامه مُنفرة، مغرورة، مريضة، عاجزة، مهووسة، متطفلة، ومثيرة للشفقة. هيتشكوك هو صاحب العدسة التى تتغزل فى عرض تفاصيل فزع وضعف وأوجاع البشر وتتوقف ببرود أمام نهش لحمهم، أما سيل دمائهم فيكفى تيار رقيق من مياه الصنبور لإزالة آثاره، وكأن لم تكن، كما يحدث فى ذلك المشهد الأيقونى من فيلمه "معتوه - Psycho".

البطل فى أفلام هيتشكوك هو الحبكة ولا صوت آخر يعلو فوقها، بكل تلاعبها وتآمرها وتعريتها للشخصيات والعبث بمصائرهم، وهو مسئول عن ذلك بفخر سادي، فيصرح فى أحد أحاديثه قائلاً : "فى الأفلام الروائية المخرج هو الرب"، واضعاً نفسه فى منزلة أعلى من شخصياته بنبرة تفتقد لأية عاطفة أو مؤازرة تجاههم. كل ذلك يجعلنى فى حيرة، فكيف لهذا الفنان الذى وصل إبداعه لدرجة العبقرية أن يخاصم مبدأ أساسى يقوم عليه الفن وهو حب الإنسان.

يصل الأمر إلى الذروة فى فيلمه "الطيور – The Birds" من إنتاج عام 1963، وهو الفيلم الذى يعلن فيه هيتشكوك الحرب على الإنسان صراحة. تدور أحداث هذا الفيلم المقتبس من قصة قصيرة للكاتبة الإنجليزية "دافنى دو مورييه"، حول "ميلانى" الفتاة الثرية المُرفهة التى تسافر من سان فرانسيسكو إلى بلدة ساحلية صغيرة خلف رجل يعجبها، وبمجرد أن تطأ قدماها أرض البلدة تحدث ظاهرة أبوكاليبسية فريدة من نوعها، حيث تقوم الطيور، بكافة أنواعها، بالاحتشاد لمهاجمة البشر بغرض القضاء عليهم، لسبب يبدو، حتى بعد تترات النهاية، غامضاً.

وازدراء الإنسان فى هذا الفيلم يختلف عن أى فيلم آخر قدمه هيتشكوك فى كونه ازدراءً مُركّباً ومتعدد الطبقات، فهيتشكوك فى هذا الفيلم لم يكتف بعقاب الإنسان على سلوكياته المتغطرسة تجاه الطبيعة بجعله فريسة للطيور، بل وأيضاً يسخر من غباء شخصياته لأنهم وحتى اللحظة الأخيرة مستمرون فى أخذ الطبيعة كأمر مُسلّم به ولا يدرون الخطأ الأصلى الذى ارتكبوه. وأخيراً فهو يسخر من الجمهور نفسه، أو قطاع كبير ممن شغلهم السؤال الخاطىء عن الفيلم، وشاركوا الشخصيات فشلها فى تحديد ما وراء الكارثة التى تحدث.

يبدأ الفيلم بتتابع مشهدى داخل مَتجر ضخم بمدينة سان فرانسيسكو متخصص فى بيع الحيوانات، يُظهر المشهد هيتشكوك نفسه (ضيف شرف كالعادة) وهو خارج من المتجر يجرّ فى يده بعض الكلاب الأليفة، هذا قبل أن تلتقى ميلانى بالرجل الوسيم "ميتش برينر" فى طابق علوى من المَتجر خاص ببيع الطيور بأنواعها، ثم يدور بينهما حوار ثرثارى عن الطيور وسبب وضعها داخل أقفاص، أثناء هذا الحوار يشرع أحد الطيور فى الهرب من قفصه ثم ينجح البطلان فى إعادته للقفص مرة أخرى.
ما نخرج به من ذلك التتابع، على الصعيد الدرامى، هو أن ميتش يريد شراء بعض الببغاوات كهدية لأخته الصغرى، وأن ميلانى مُعجبة به، حتى أنها ذهبت ورائه إلى بلدته الصغيرة على خليج بوديجا، مُحضرة معها الببغاوات التى أرادها، وتركتها فى منزله دون علمه؛ كلفتة ظريفة أو نوع من المفاجأة السارة للرجل الذى تحبه. أما ما نخرج به، على الصعيد الرمزى، فهو نقد للإنسان ككائن متسلط على الطبيعة ومستعبد للكائنات الأخرى، فضيف الشرف يجر الكلاب، والمتجر يحبس الطيور، وميلانى تستغلهم كأداة فى خدمة نزواتها العاطفية.

 
إذن الحيوانات عموماً، والطيور خصوصاً، فى التتابع الأوّلى من الفيلم لا تملك من أمرها شيئاً ومصيرها خاضع بشكل تام لأهواء بنى البشر. وكان هذا السبب كافيا لثورة الطيور وتوّحشها القادم ضد البشر، بداية من ذلك الطائر الذى ينقض على ميلانى فى البحيرة وكأنه ينتقم للببغاوات، ووصولاً للهجمات الأكثر ملحمية وقوة وبخاصة حين تهاجم أسراب الغربان أطفال المدرسة الهاربين فى أحد أعتى مشاهد الفزع بتاريخ السينما. وإنى مؤمن بأن هناك تعمّد بإدراج ضحايا من الأطفال؛ انحيازاً لمبدأ المعاملة بالمثل، حيث أن البشر أنفسهم لا يفرقون فى استعبادهم وغطرستهم على الكائنات الأخرى بحسب العُمر، فلماذا على الطيور أن تُفرق فى انتقامها بين بشرى بالغ وبشرى طفل؟! توجد هنا نبرة تفيد بأن التصنيف العمرى والجنسى هو اختراع بشرى بلا معنى، فالحقيقة أن جميع الكائنات تتألم وتتأذى.

أما المستوى الثانى من عقاب هيتشكوك، فكان ضد تسلط البشر على بشر مثلهم، وتحديداً شخصية الأم، فهى تخاف على ولدها ميتش بدرجة مهووسة وتحاول إبقائه دائراً فى فلكها إلى الأبد، وهو بذلك لا يختلف كثيراً عن الطيور داخل أقفاصها. لذا فكان عقاب هذه الأم المتسلطة مضاعفاً بأن تعيش حالة ذعر مزدوجة، أولها ذعر على المستوى الوجودى مصدره هجوم الطيور على البشر، وثانيها ذعر على المستوى الشخصى مصدره ميلانى وهى فى طريقها لإيقاع ميتش فى غرامها ومن ثمّ إبعاده عن أمه.
حول هذا الأمر يتحدث هيتشكوك فى كتاب محاوراته مع "فرانسوا تروفو" عن مشهد حب محذوف من الفيلم كان يجمع بين ميلانى وميتش فى منزل الأخير بعد مغادرة أمه فى طريقها لبيت ذلك الفلاح الذى افترست الطيور جسده والتهمت عينيه، فى المشهد المحذوف تراه الأم فتفزع وتغادر سريعاً عائدة لمنزلها لكنها ترتعد من اختلاس رؤية ابنها يمارس الحب مع ميلانى. يقول هيتشكوك أنه أراد إظهار أن تلك السيدة، وبرغم هول رؤيتها لإنسان بلا عيون، إلا أنها ما زالت أماً متسلطة، وأن حُبها لولدها ما زال مسيطراً على كل مشاعرها. وتعد هذه صفعته الساخرة الأولى من شخصياته، فالأم لم تتعظ بعد من ثورة الطبيعة ضد التسلط والاستبداد.

أما الصفعة الأخرى فكانت فى مشهد المطعم، الذى جمع بعض سكان البلدة بعد أن اشتدت هجمات الطيور، فأخذوا فى عقد نقاشات حول الأمر من منظور طبيعى وحربى ودينى وفلسفى، كل منهم يطرح موقفه من الظاهرة البعيد كل البُعد عن اتهام الإنسان بأنه السبب، على إيقاع هذه المناقشات نسمع النادلة تنادى على الطباخ بأن يحضّر بعض شطائر الدجاج، ونسمع الطفل الصغير يسأل أمه بفزع "هل، حقاً، ستأكلنا الطيور يا أماه؟"، يقولها وهو جالس على منضدة مليئة بأصناف الطعام وبداخل مطعم يقدم الطيور كصنف رئيسى فى وجباته كما سمعنا من النادلة، ليكلل هذا التناقض استهزاء هيتشكوك بشخصياته وبالإنسان الذى لم ولن يتعظ أبدا أو يتراجع عن صلفه مهما أمدته الطبيعة بإشارات عن غضبها، فهو ماضٍ فى استغلالها لصالحه والتعاطى معها كشىء مُسلم به، فهو يرى التهام شطائر الدجاج حقاً بديهياً، فى نفس الوقت الذى يرى فى هجوم مضاد للطيور ظاهرة غريبة تستحق التساؤل والتحليل!

يسخر هيتشكوك، أيضاً، من شريحة الجمهور التى سوف تخرج من مشاهدة الفيلم لتطرح نفس السؤال الذى طرحته الشخصيات ولم يُجاب عنه، وهو السؤال الخاطىء: "لماذا تهاجم الطيور؟"، هؤلاء من تعاطوا مع الحالة الاستثنائية التى يقدمها هيتشكوك على أنها حبكة منقوصة الحل، متعطشين لإجابات من نوعية أن المسئول عن هياج الطيور هى الأرواح الشريرة، أو تجارب خطرة يجريها علماء، أو موجات تحكم تبثها كائنات فضائية، أو أن البطل يحلم ... إلى آخره من تلك التفسيرات التى اعتادت أفلام الغموض تقديمها. السخرية هنا أن الجميع منشغل بتفسير هجوم الطيور ولا أحد مهتماً بتفسير هجوم البشر، هذا السؤال المضاد هو ما أراد هيتشكوك أن يسأله الجمهور وهو يعرف أنهم لن يفعلوا لأنهم وببساطة يفكرون من منظور بنى البشر الذى ينتقد الفيلم غرورهم وغبائهم.

لذا فبرغم خطأ السؤال إلا أنه يؤكد نجاح الفيلم فى تقديم رسالته على كافة المستويات. يقول هيتشكوك فى الكتاب السابق ذكره: "في بداية الفيلم يظهر ميتش (رود تايلور) في متجر الطيور ليمسك بطائر الكناري الذي هرب من قفصه، وبعد إعادته للقفص، يقول لميلانى، "إنى أضعك مرة أخرى في قفصك المذهب، يا ميلاني دانيالز." قمت بإضافة هذه الجملة أثناء التصوير لأنني شعرت بتناسبها مع شخصية ميلانى فهى الفتاة الثرية الضحلة. ومع مرور الأحداث، عندما تهاجم الطيور القرية، تلجأ ميلاني للاختباء فى كابينة هاتف زجاجية، وقد أظهرتها كما الطيور في القفص، لكن هذه المرة ليس قفص من الذهب، بل قفص من البؤس، ويُعد ذلك انعكاساً للصراع بين الإنسان والطيور. فالبشر هنا في الأقفاص والطيور فى الخارج. عندما ألتقط شيئا من هذا القبيل، لا أعتقد من المحتمل أن يلاحظه الجمهور." وما قاله هيتشكوك عن هذا المشهد ينطبق أيضاً على مشاهد المطعم والمنزل فى نهاية الفيلم، حيث تحولت كافة الأماكن المغلقة إلى أقفاص للبشر، بعد أن بدأ الفيلم بلفيف من أقفاص الطيور فى المتجر.

الاستنتاج النهائى. إذا كان يرى هيتشكوك أن التهام الدجاج نوعاً من التعدى على كائن آخر وانتهاكاً للطبيعة وليس مجرد مرحلة من مراحل الدائرة الغذائية للكائنات الحية، فهو هنا يسعى نحو نسخة أكثر تطوراً وسمواً للإنسان، يسعى نحو كائن يستحق تلك الهالة والأهمية التى أحاط نفسه بها، كائن لا يأكل ولا يتغوط ولا يمارس الجنس، كائن خالى من كل الصفات غير المرغوب فيها مثل الغباء والمعاناة والمرض كما يذهب تعريف فلسفة أو حركة جديدة تطلق على نفسها ما بعد الإنسانية أو Transhumanism؛ لأن هيتشكوك لم يكن يوماً من المعجبين بالحالة التى عليها إنسان اليوم، تتفق أو تختلف معه، لكن على الأقل تذكّر بأن لولا هذا الإنسان بكل عيوبه لم يكن ليصلنا فنٌ خلّاب كالذى قدمه هيتشكوك، فلولا الإنسان لما شاهدنا "الطيور".

0 التعليقات:

نشر هذا المقال في جريدة الجمهورية بتاريخ 26 يوليو 2017

في فيلمه الأحدث "دانكيرك"، يقود المخرج "كريستوفر نولان" معركتين أساسيتين بهدف واحد وهو النجاة. الأولى للنجاة من الحصار النازي للجنود البريطانيين خلال السنوات الأولى من الحرب العالمية الثانية، وتحديدا في بلدة "دانكيرك" التي تقع في شمال غرب فرنسا. أما المعركة الثانية فهي للنجاة من الكليشيه السينمائي ومن كل ما هو مكرر في طريقة تقديم الفيلم، بدءًا بالتخلي عن التفاصيل التي لا تخلو منها أفلام الحروب وعلى رأسها شرح السياق التاريخي لما يدور، وانتهاءً بالتخلي عن مبادئ القصة التقليدية وعلى رأسها مركزية الشخصية، فقد اكتفى الفيلم بجعل المتفرج يواقع الحدث من منظور مبالغ في موضوعيته.

شعار الفيلم الرئيسي أن النجاة من "دانكيرك" هي بحد ذاتها انتصار. لكن هل النجاة من الكليشيه هي بحد ذاتها قيمة؟ ليس إذا كانت النجاة منه ستؤدي لكليشيهات من نوع آخر. وبداية يجب التأكيد على أن الكليشيه هو العدو الأول لكل مبدع، ذلك لأن أبسط تعريف للكليشيه هو كل أداة فنية تم استهلاكها. الهدف الجوهري إذن هو تجنب التكرار لأنه خصيم الدهشة ومصدر الرتابة الأول. وفي "دانكيرك" ابتعد نولان عن كل ما هو مكرر ومستهلك في أذهاننا عن أفلام الحروب ليصنع فيلم حربي مختلف. لكنه كان اختلافا بغرض الاختلاف وليس نتيجة لإيجاد البديل. هروب استعراضي من التكرار قاده إلى سكك مسدودة في أعراف الحكي، فلم يجد حلولا سوى أن يصنع كليشيهاته الخاصة ويكررها على مدار زمن الفيلم.

قد يكون الفيلم نجا بالفعل من تقديم قصة حب مفتعلة في الخلفية، أو تاريخ أسري ميلودرامي للشخصيات، ولم يأخذنا لغرف القيادة العسكرية المهيبة لنتابع النقاشات المحتدمة بين الجنرالات حول خطط الحرب... إلى آخر كل تلك الكليشيهات المحفوظة في أفلام الحروب. لكن ما سبق لم يكن كافيا للقول بأن الفيلم هرب من جوهر الكليشيه وهو الرتابة. فالبنية السردية للفيلم يمكن تلخيصها في أنه مع كل خمس دقائق هناك شخص عابر بلا اسم أو تعريف أو تاريخ، أشبه بأبطال ألعاب "البلاي-ستيشن"، يواجه الموت، برا وبحرا وجوا، ويعافر حتى ينجو منه بالصدفة، فإما أن القنبلة النازية كانت على بُعد أمتار منه، أو أن الرصاصة كانت طائشة، أو أن المروحية قد سقطت به لكن قوارب الإنقاذ كانت حاضرة...الخ. وكلها مجموعة من وحدات الحكي المتطابقة من حيث المبدأ، تقوم بتكرار نفسها على مدار الفيلم، وتزداد بلادة واعتيادية مع كل تكرار، وباتالي تفقد تأثيرها.

لم يكن نولان مطالبا بتقديم قصة بالمعنى الميلودرامي للقصة، لكنه تخلى عن أبجدية رئيسية لا يصمد من دونها أي نشاط سردي حتى وإن كان تبسيطيا (minimalistic)، هذه الأبجدية هي التطور. نحن أمام فيلم مستسلم لركوده وسلبيته استسلاما تاما. والسلبية في الفيلم تنطبق حتى على الحل الذي يأتي في النهاية عن طريق المدد الغيبي، وهو بمجرد أن ينظر الجنرال عبر المنظار فيرى قوارب الصيد تقترب من الشاطئ لإجلاء الجنود فيخبر من حوله بمنتهى البساطة أنها "فُرِجَت"! حتى لو كان هذا الواقع تاريخيا فهو واقع غير مُعالج سينمائيا، ربما بزعم الواقعية وحقيقة ما يحدث في الحروب، لكن من قال أن الواقعية القحة معيار للجودة؟ وكيف غاب عن مرددي تلك النظرية حقيقة بسيطة مثل أن مشاهدة فيلم ممتع تظل أفضل كثيرا من معايشة حرب مملة!

اكتفى الفيلم بتقديم هذا الصراع الذي يدور مرارا في نفس الحلقة، وهو بحق صراع قادر على خطف الأنفاس وإحداث الإثارة، لكنها أشبه بإثارة ركوب "الرولر كوستر" في أي مدينة ملاهي، هي إثارة لا تخرج عن المضمار المتوقع، إثارة بطعم الرتابة. ماذا عن مخاطبة المشاعر؟ اعتمد الفيلم في ذلك على تكثيف نفس الصراع تكثيفا كميا لا نوعيا، واعتمد في ذلك على تعدد الأماكن والبيئات والأشخاص التي تواجه ويلات الحرب، مراهنا على أن معايشة التجربة من زوايا كثيرة (عدديا) ستساهم بشكل أكبر في استيعاب المأساة، قد يكسب الفيلم هذا الرهان مع شريحة من المتفرجين ستبارك مبدأ "الحرب حين تُعاش لا حين تُحكى". لكنه سيخسر الرهان مع شريحة أخرى لن تجد في النظرة البانورامية للحرب خيطا عاطفيا يستحق التعلق به، تماما مثل لقطات مدير التصوير "هويت فان هوتيما" وهي ترصد من الأعلى صفوف وتجمعات هائلة للجنود المحاصرين على الشاطئ، يبدون فيها بحجم هامشي كالنمل، وقد يصعب التمييز بينهم وبين رصة الأحجار، وفي ذلك لا يختلفون كثيرا في مقدار الألفة عن الأبطال الاعتباريين للفيلم. فالنظرة متطرفة العمومية من نولان للحرب، غير المرتكزة حول الشخصية (الإنسان)، تكون أشبه بخبر في نشرات الأخبار ضحاياه بالنسبة للمستمع مجرد رقم. قد يكون الرقم مثيرا للأسى لكنه الأسى الذي ينتهي بمجرد تغيير القناة أو الانتقال للفقرة الرياضية في نفس النشرة. كذلك حوادث الفيلم (وأتعمد هنا وصفها بالحوادث لا الأحداث) فهي تطير من ذاكرة وعقل المتفرج بمجرد نزول التترات.

ويبدو أن نولان كان على وعي بعناصر القصور في دراما الفيلم، لذا حاول التحايل عليها بالتلاعب بالخط الزمني ليعرض نفس الحادث بأكثر من منظور على طريقة Pulp Fiction، لكن حتى تلك الأداة ظهرت دخيلة على الفيلم، فما الفائدة أو الإضافة من مواقعة نفس الحدث عدة مرات من منظور كل شخصية إذا كانت شخصيات الفيلم بالأساس مُهمشة بفعل فاعل! فليس ثمة نقلة شعورية أو لمعة فكرية قد تنتج جراء رؤية سقوط الطائرة مرة بعين البحّار العجوز، ومرة بعين جنود المشاة، ومرة بعين قائد الطائرة الأخرى، فنحن بالكاد نعرف هؤلاء. "دانكيرك" فيلم غير مكتمل لمخرج موهوب، أعاقه الطموح الزائد من الخروج بإبهار موضوعي يتناسب مع الإبهار التقني.

رهان نولان في دانكيرك

كتب Amgad Gamal  |  نشر في :  4:30 م 0 تعليقات

نشر هذا المقال في جريدة الجمهورية بتاريخ 26 يوليو 2017

في فيلمه الأحدث "دانكيرك"، يقود المخرج "كريستوفر نولان" معركتين أساسيتين بهدف واحد وهو النجاة. الأولى للنجاة من الحصار النازي للجنود البريطانيين خلال السنوات الأولى من الحرب العالمية الثانية، وتحديدا في بلدة "دانكيرك" التي تقع في شمال غرب فرنسا. أما المعركة الثانية فهي للنجاة من الكليشيه السينمائي ومن كل ما هو مكرر في طريقة تقديم الفيلم، بدءًا بالتخلي عن التفاصيل التي لا تخلو منها أفلام الحروب وعلى رأسها شرح السياق التاريخي لما يدور، وانتهاءً بالتخلي عن مبادئ القصة التقليدية وعلى رأسها مركزية الشخصية، فقد اكتفى الفيلم بجعل المتفرج يواقع الحدث من منظور مبالغ في موضوعيته.

شعار الفيلم الرئيسي أن النجاة من "دانكيرك" هي بحد ذاتها انتصار. لكن هل النجاة من الكليشيه هي بحد ذاتها قيمة؟ ليس إذا كانت النجاة منه ستؤدي لكليشيهات من نوع آخر. وبداية يجب التأكيد على أن الكليشيه هو العدو الأول لكل مبدع، ذلك لأن أبسط تعريف للكليشيه هو كل أداة فنية تم استهلاكها. الهدف الجوهري إذن هو تجنب التكرار لأنه خصيم الدهشة ومصدر الرتابة الأول. وفي "دانكيرك" ابتعد نولان عن كل ما هو مكرر ومستهلك في أذهاننا عن أفلام الحروب ليصنع فيلم حربي مختلف. لكنه كان اختلافا بغرض الاختلاف وليس نتيجة لإيجاد البديل. هروب استعراضي من التكرار قاده إلى سكك مسدودة في أعراف الحكي، فلم يجد حلولا سوى أن يصنع كليشيهاته الخاصة ويكررها على مدار زمن الفيلم.

قد يكون الفيلم نجا بالفعل من تقديم قصة حب مفتعلة في الخلفية، أو تاريخ أسري ميلودرامي للشخصيات، ولم يأخذنا لغرف القيادة العسكرية المهيبة لنتابع النقاشات المحتدمة بين الجنرالات حول خطط الحرب... إلى آخر كل تلك الكليشيهات المحفوظة في أفلام الحروب. لكن ما سبق لم يكن كافيا للقول بأن الفيلم هرب من جوهر الكليشيه وهو الرتابة. فالبنية السردية للفيلم يمكن تلخيصها في أنه مع كل خمس دقائق هناك شخص عابر بلا اسم أو تعريف أو تاريخ، أشبه بأبطال ألعاب "البلاي-ستيشن"، يواجه الموت، برا وبحرا وجوا، ويعافر حتى ينجو منه بالصدفة، فإما أن القنبلة النازية كانت على بُعد أمتار منه، أو أن الرصاصة كانت طائشة، أو أن المروحية قد سقطت به لكن قوارب الإنقاذ كانت حاضرة...الخ. وكلها مجموعة من وحدات الحكي المتطابقة من حيث المبدأ، تقوم بتكرار نفسها على مدار الفيلم، وتزداد بلادة واعتيادية مع كل تكرار، وباتالي تفقد تأثيرها.

لم يكن نولان مطالبا بتقديم قصة بالمعنى الميلودرامي للقصة، لكنه تخلى عن أبجدية رئيسية لا يصمد من دونها أي نشاط سردي حتى وإن كان تبسيطيا (minimalistic)، هذه الأبجدية هي التطور. نحن أمام فيلم مستسلم لركوده وسلبيته استسلاما تاما. والسلبية في الفيلم تنطبق حتى على الحل الذي يأتي في النهاية عن طريق المدد الغيبي، وهو بمجرد أن ينظر الجنرال عبر المنظار فيرى قوارب الصيد تقترب من الشاطئ لإجلاء الجنود فيخبر من حوله بمنتهى البساطة أنها "فُرِجَت"! حتى لو كان هذا الواقع تاريخيا فهو واقع غير مُعالج سينمائيا، ربما بزعم الواقعية وحقيقة ما يحدث في الحروب، لكن من قال أن الواقعية القحة معيار للجودة؟ وكيف غاب عن مرددي تلك النظرية حقيقة بسيطة مثل أن مشاهدة فيلم ممتع تظل أفضل كثيرا من معايشة حرب مملة!

اكتفى الفيلم بتقديم هذا الصراع الذي يدور مرارا في نفس الحلقة، وهو بحق صراع قادر على خطف الأنفاس وإحداث الإثارة، لكنها أشبه بإثارة ركوب "الرولر كوستر" في أي مدينة ملاهي، هي إثارة لا تخرج عن المضمار المتوقع، إثارة بطعم الرتابة. ماذا عن مخاطبة المشاعر؟ اعتمد الفيلم في ذلك على تكثيف نفس الصراع تكثيفا كميا لا نوعيا، واعتمد في ذلك على تعدد الأماكن والبيئات والأشخاص التي تواجه ويلات الحرب، مراهنا على أن معايشة التجربة من زوايا كثيرة (عدديا) ستساهم بشكل أكبر في استيعاب المأساة، قد يكسب الفيلم هذا الرهان مع شريحة من المتفرجين ستبارك مبدأ "الحرب حين تُعاش لا حين تُحكى". لكنه سيخسر الرهان مع شريحة أخرى لن تجد في النظرة البانورامية للحرب خيطا عاطفيا يستحق التعلق به، تماما مثل لقطات مدير التصوير "هويت فان هوتيما" وهي ترصد من الأعلى صفوف وتجمعات هائلة للجنود المحاصرين على الشاطئ، يبدون فيها بحجم هامشي كالنمل، وقد يصعب التمييز بينهم وبين رصة الأحجار، وفي ذلك لا يختلفون كثيرا في مقدار الألفة عن الأبطال الاعتباريين للفيلم. فالنظرة متطرفة العمومية من نولان للحرب، غير المرتكزة حول الشخصية (الإنسان)، تكون أشبه بخبر في نشرات الأخبار ضحاياه بالنسبة للمستمع مجرد رقم. قد يكون الرقم مثيرا للأسى لكنه الأسى الذي ينتهي بمجرد تغيير القناة أو الانتقال للفقرة الرياضية في نفس النشرة. كذلك حوادث الفيلم (وأتعمد هنا وصفها بالحوادث لا الأحداث) فهي تطير من ذاكرة وعقل المتفرج بمجرد نزول التترات.

ويبدو أن نولان كان على وعي بعناصر القصور في دراما الفيلم، لذا حاول التحايل عليها بالتلاعب بالخط الزمني ليعرض نفس الحادث بأكثر من منظور على طريقة Pulp Fiction، لكن حتى تلك الأداة ظهرت دخيلة على الفيلم، فما الفائدة أو الإضافة من مواقعة نفس الحدث عدة مرات من منظور كل شخصية إذا كانت شخصيات الفيلم بالأساس مُهمشة بفعل فاعل! فليس ثمة نقلة شعورية أو لمعة فكرية قد تنتج جراء رؤية سقوط الطائرة مرة بعين البحّار العجوز، ومرة بعين جنود المشاة، ومرة بعين قائد الطائرة الأخرى، فنحن بالكاد نعرف هؤلاء. "دانكيرك" فيلم غير مكتمل لمخرج موهوب، أعاقه الطموح الزائد من الخروج بإبهار موضوعي يتناسب مع الإبهار التقني.

0 التعليقات:

 
نشر هذا المقال للمرة الأولى بعدد شهر مايو 2017 من مجلة الدوحة الثقافية

تجربة نقدية حافلة يزيد عمرها عن خمسين عاما قضاها الناقد المصري سمير فريد في إثراء الثقافة السينمائية. فريد، المُلقب بعميد النقاد العرب، وُلِد في مدينة القاهرة في الأول من ديسمبر عام 1943، وبدأ ممارسة النقد السينمائي منذ عام 1964 قبل تخرجه من قسم النقد بالمعهد العالي للفنون المسرحية بعام واحد، جاء بعدها تعيينه بجريدة الجمهورية عام 1965، واستمر يكتب لها ولمطبوعات أخرى مصرية وعربية أبرزها جريدة المصري اليوم من خلال عمود "صوت وصورة" الذي خرج فيه أحيانا عن سياق النقد السينمائي ليناقش مواضيعا اجتماعية وسياسية مختلفة. رحل فريد عن عالمنا في مطلع الشهر الماضي، تاركا إرثا هائلا من الدراسات والمقالات والبرامج التلفزيونية والكتب التي يصل عددها إلى 50 كتابا تنوعت بين النقد والتأريخ والترجمة، وقد ساهمت في تشكّل وعي أجيال، ويدين له الكثيرون بإثقال معرفتهم بفن السينما، الفن الذي كان عشقه قبل أن يكون مهنته.

تُرجمت العديد من كتابات فريد إلى لغات أجنبية، ما جعله يتخطى المحلية ويبرز اسمه على الساحة العالمية، فكانت كتاباته هي المدخل المثالي للتعرف على سينما عربية يجهلها العالم ويشتاق للمزيد. يتطور الأمر مع فريد ويصل للكتابة خصيصا لمجلة Ecran الفرنسية التي نشرت له سلسلة مقالات بعنوان "ستة أجيال في تاريخ السينما المصرية"، وسرعان ما نال عضوية الاتحاد الدولي للنقاد عام 1970، وكان حضوره دائما ومؤثرا في المحافل السينمائية الدولية، فلم ينقطع طيلة خمسين عاما عن حضور فعاليات مهرجان كان السينمائي الدولي، وهو المهرجان الذي قام بتكريمه عام 2000 حيث مُنح فريد ميدالية كان الذهبية. كما كرمه مهرجان أوسيان سيني فان بنيو دلهي في الهند عام 2012 عن إنجازه في مجال النقد السينمائي. وتعددت التكريمات والجوائز، لكن يبقى التكريم الأهم والأخير بجائزة الكاميرا الذهبية من مهرجان برلين الدولي في مطلع فبراير الماضي وقبل وفاته بأسابيع، وهي واحدة من أرفع الجوائز التي تُمنح للسينمائيين حول العالم، ويعد فريد أول مبدع يحصدها من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ومن ضمن ما كتبوه عن فريد في حيثيات منح هذه الجائزة: إنه واحد من أهم نقاد السينما فى العالم العربى، ويعتبر خبيرا سينمائيا تؤخذ بآرائه حول العالم، وهو الناقد الذى رافق مهرجان برلين لعقود طويلة .."

ويفتتح الناقد الألماني "كلاوس إيدر"، سكرتير عام الاتحاد الدولي للنقاد، كلمات الرثاء التي كتبها عن فريد بعد أيام من وفاته قائلا: "ليس من الشائع أن تُمنح الجوائز لناقد سينمائي، فبداخل العائلة السينمائية يعتبر الناقد هو الطفل المنبوذ ... لكن بالنظر للأعمال التي قدمها سمير فريد يتضح كم أن وجود النقاد يُعد ضروريا لإنعاش السينما وإبقائها"، وهنا فإيدر استطاع أن يلمس مكمن العظمة الحقيقية لفريد، وهو ليس بالتقدير نفسه بل بالقدرة على انتزاع التقدير رغم كونه "ناقدا"، أي يمارس أكثر المهن المكروهة داخل المنظومة السينمائية. وقد يطول الجدل في هذا الشأن، لكن المؤكد أنه لولا النقد السينمائي لم تكن السينما لتكتسب صفة الفن من الأساس، ولظل يُنظر لها بدونية كما كان الأمر في بدايات القرن العشرين، كونها مجرد نشاط للتسلية، ويرى كثيرون أن النقد السينمائي نشأ لهذا الغرض: فإذا كانت السينما تستطيع أن تستوعب نظاما نظريا له ثقله، فسوف تكون جديرة بالاحترام مثل بقية الفنون الأقدم. وهو الشيء الملموس في كافة كتابات المنظرين القدامى، فالسعي وراء نظرية للسينما هو سعي لتحقيق الكرامة لهذا الفن، ذلك منذ قام "فاشيل ليندساي" بنشر كتابه "فن الصورة المتحركة" عام 1915 وهو من عنوانه يبحث للسينما عن صفة فنية كالشعر والمسرح والرواية.

وما نتعلمه من تاريخ النقد السينمائي أن الكتابات التي تبقى هي تلك التي تتجاوز في علاقتها بالسينما التعليق أو الحكم على الأعمال، وتمتد لتشمل رصد الظواهر والتنبؤ والتصنيف وإبداع النظريات وإلهام الفنانين. فهناك كتابات "أندري بازان" التي ألهمت مخرجي الموجة الفرنسية الجديدة، وهناك مقالة "الكاميرا مثل القلم" التي كتبها "ألكسندر أستروك" في الأربعينيات وتنبأت بدخول السينما عصر السيميوطيقا واللغة البصرية، وهناك نظرية المؤلف auteur theory التي بدعها "أندرو ساريس" ورصدت ظاهرة تحول وظيفة مخرج الفيلم من منفذ تقني للنص إلى مؤلف ومبدع حقيقي للفيلم، وغيرها من الكتابات التي غيرت في مسار وتاريخ الثقافة السينمائية.

وعلى الصعيد العربي فلم تظهر على الساحة أطروحة نظرية مماثلة بنفس الشعبية والثقة والتأثير الذي تتمتع به أطروحة "الواقعية الجديدة" للراحل سمير فريد، وهو مَن صكّ هذا المصطلح ونظّر حوله. وتكمن أهمية فريد هنا، كونه الناقد العربي صاحب النظرية، وهو أمر نادر. وقد كانت البذرة الأولى لتلك الأطروحة بمقالة نشرت في مجلة "أدب ونقد" في ديسمبر 1986 بعنوان "واقعية جديدة تولد في مصر"، استعرض فيها فريد الملامح السينمائية لموجة جديدة من المخرجين هم "عاطف الطيب"، "محمد خان"، "داود عبد السيد" و"خيري بشارة". فهؤلاء برأيه نجحوا في تصوير الحياة اليومية في القاهرة بصدق وجمال، ونزلوا إلى الشوارع على نحو لم يحدث من قبل. كما عبروا عن الأزمة النفسية لجيل حرب أكتوبر 73. وقد واصل فريد متابعاته وتنظيره حول هذا الجيل بحماس لا يقل في إبداعه عن أعمالهم التي تناولها، حتى اختمرت رؤيته تماما فأصدر كتابه الأهم في مطلع التسعينيات بعنوان "الواقعية الجديدة في السينما المصرية".

ومن القضايا التي شغلت فريد قضية السينما المصرية والقطاع العام في فترة حكم عبد الناصر، نشر فريد دراسة مطولة حول هذا الأمر في عدد يناير 1973 من مجلة المعرفة السورية، وذلك بعد وفاة عبد الناصر وتوقف القطاع العام عن الإنتاج بعامين، ويختتم فريد رصده لكافة مراحل سطوة القطاع العام قائلا إن عدد الأفلام ذات المستوى الفني الذي أنتجها هذا القطاع يبلغ نحو ربع ما أنتجه. والأغلبية الساحقة لهذه الأفلام مأخوذة عن روايات ... ولا تتجاوز الأفلام الجيدة التي لم تعتمد على الأعمال الروائية أصابع اليد الواحدة. ورغم أن كل هذه الأفلام تنتمي إلى الواقعية التقليدية إلا أن عددا محدودا جدا منها تناول مشاكل المجتمع المصري المعاصر.

ويعود فريد لمناقشة القضية مرة أخرى في عموده بجريدة المصري اليوم بتاريخ 30 أبريل 2014 في مقال بعنوان "كارثة العودة للقطاع العام في السينما"، وذلك بعد أن ارتفعت بعض الأصوات تطالب الدولة بالعودة لإنتاج الأفلام بعد ثورة يناير 2011، وذكر فريد أن الإنتاج السينمائي المصري كان لفترة متكافئا مع مثيله الأوروبي والأميركي، ومع إنشاء القطاع العام في السينما عام 1963، بدأت السينما المصرية في التراجع... كان ذلك لأنه في الوقت الذي شهد فيه فن السينما في الستينات أكبر وأهم حركات التجديد في كل تاريخه من البرازيل إلى اليابان مرورا بباريس ولندن وروما والمجر وبولندا وتشيكوسلوفاكيا وألمانيا، بدأت مصر عصر توجيه السينما على الطريقة السوفيتية في الثلاثينيات، والتي كانت روسيا نفسها قد تمردت عليها بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي عام 1965. ويعود فريد ليضيف: "إن أفلام الدعاية السياسية ليست رديئة فنياً بالضرورة، بل إن بعضها من أعظم كلاسيكيات الفن السابع مثل أفلام إيزنشتين، ولكنها تهدر الكثير من طاقة الفنانين في التحايل على الضغوط التي تمارسها الدول كمنتج يستخدم السينما كوسيلة، ولا تعنيه حرية القضايا في كثير أو قليل."

قضايا حرية الفنان كانت تتصدر اهتمام فريد، فكان صوتا تقدميا، يعي جيدا أن الفن لا يقوم بدون تحرر الفنان، وفي كل قضايا المنع ومعارك الفنانين مع الرقابة وقف في صف الفنان. ومن أشهر الأفلام التي دافع عنها فيلم "الرسالة" للمخرج السوري مصطفى العقاد وكان اسم الفيلم في البداية هو "محمد رسول الله"، كتب فريد مقالا طويلا في عدد أبريل 1977 من مجلة الهلال بعنوان "ارفعوا أيديكم عن فيلم محمد رسول الله"، يستعرض فيه الأزمة التي تعرض لها الفيلم والتي أدت لمنعه من العرض في مصر، رغم عرضه في شتى دول العالم، انتقد فريد تعنت جهاز الرقابة والمؤسسات الدينية التي وقفت خلف هذا المنع، رغم التزام مخرج الفيلم بالضوابط التي اشترطتها تلك المؤسسات ومنها عدم تجسيد النبي محمد صوتا وصورة. وأصدر فريد كتابا بعنوان "تاريخ الرقابة على السينما في مصر"، كتب في مقدمته: "الرقابة كما وصفها "غودار" ذات يوم هي جوستابو على الروح، وسوف يظل كل مبدع في العالم يرى في الرقابة قيدا على حريته في التعبير."

والرقابة في نظر فريد تعبر عن السلطة السياسية الحاكمة: "..ويمكن تبين توجهات السلطة بوضوح من خلال ما تمنعه رقابتها أكثر مما تصرح به." ولم يكتف فريد بنقد المؤسسات الرقابية، فقد لاحظ أن هناك دور يلعبه بعض المثقفين في نفاق توجهات السلطة بالتحريض على المنع، وفي الفصل العاشر من كتابه يرصد فريد تلك الكتابات الصحافية المحرضة على المنع في أزمة فيلم "الأبواب المغلقة" للمخرج عاطف حتاتة. ويستحدث نفس المعركة مع أزمة فيلم "حلاوة روح" للمخرج سامح عبد العزيز، الفيلم الذي تدخل رئيس الوزراء المصري السابق لمنعه رغم إجازته رقابيا، نشر فريد على خلفية هذه الأزمة الشهيرة سلسلة مقالات بعنوان "النقد السينمائي السلفي"؛ واصفا أغلبية الكتابات النقدية التي نالها هذا الفيلم بالتحريضية. وتابع فريد: " ...من المؤكد أن عدم إعجاب أى ناقد بالفيلم لا يعنى بالضرورة أنه سلفى، فليس المقصود الناقد الذى يرى سلبيات فى السيناريو أو الإخراج أو التمثيل أو غير ذلك من فنون السينما، وإنما من يرفض الفيلم بسبب تناوله الجنس، أى بسبب موضوعه أو الأزياء التى يرتديها الممثلون."

واهتم فريد في تحليلاته النقدية بالإشارة للسياق الاجتماعي والسياسي للزمن الذي كتب فيه التحليل، وربط هذا السياق بالعمل الذي يناقشه، ما جعل مقالاته دائما صالحة للتجميع بداخل كتب؛ بحيث يعمل التحليل بجوار السياق عمل النقد والتأريخ في آن واحد. ولم يخجل فريد يوما من التراجع عن بعض آرائه القديمة لو تغير السياق الذي كتبت فيه، وأبرز تلك التراجعات كان عن المقال الذي كتبه في شبابه ضد سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة، بعد أن غابت عن الساحة السينمائية من منتصف الستينيات لتعود مع مطلع السبعينيات بفيلم "الخيط الرفيع" الذي استفز غضب فريد وأبناء جيله كونه دراما برجوازية مُرفهة في ظل نكسة عسكرية تشهدها مصر، لتتبعه حمامة بفيلم برجوازي آخر هو "إمبراطورية م" الذي قيلت فيه جملة على لسان أحد الأبطال تسفه من فكرة التظاهرات الاحتجاجية، مع صدور الفيلم في نفس توقيت اندلاع مظاهرات الطلبة الشهيرة عام 1972 التي طالبت السلطة بإعلان الحرب واستعادة الأراضي المحتلة، فكتب فريد مقالا هجوميا ساخرا من حمامة بعنوان "الليدي فاتن تلعب الكروكيت في نادي الجزيرة". ويقول بعد سنين أنه ندم على هذه الكتابات، خاصة بعد أن اختارته حمامة ليكتب كتابا عن مسيرتها السينمائية بدورة عام 1995 لمهرجان القاهرة السينمائي، والسبب أنها ارتأت في قلمه الموضوعية وأنه الوحيد الذي لن يجاملها. فكانت فرصة فريد للاعتذار عن حادثة السبعينيات والتعبير عن تقديره الحقيقي لتجربة حمامة التمثيلية.

واتسمت سيرة فريد بنزعة استكشافية للتجارب المختلفة وإخلاص في تسليط الضوء على المواهب الجديدة، سواء كانت هذه التجارب من النوع النقدي أو النوع الفني. أما الأول فيتمثل في إزالة الثرى عن تجربة الناقد "فتحي فرج" بعد وفاته، حيث جمّع فريد مقالاته من منشورات نوادي سينما القاهرة وقدمها في كتاب ممتع من إعداده، ثم اتخذ فريد قراره عام 2012 بالاستغناء عن مساحته في جريدة الجمهورية على أن تخصص تلك المساحة للمواهب النقدية الشابة. أما الثانية فتتمثل في انحيازه الدائم للأفلام التجريبية المختلفة سواء بمساعدة صناعها وإرشادهم بالنصائح أو بالحرص على تقديمها للقراء وتفسيرها لهم بشكل ممتع، فكان خير سند ومعاون لصناع السينما الجادة، وجمعته صداقات متعددة بهم منذ جيل شادي عبد السلام وحتى جيل كريم حنفي وهالة لطفي. وشارك فريد في تأسيس جمعية نقاد السينما المصريين، وترأس مهرجان القاهرة السينمائي عام 2014 في دورة شهد كل من ارتادها أنها الأقوى في تاريخ المهرجان."

سمير فريد .. مسيرة ناقد وعاشق للسينما

كتب Amgad Gamal  |  نشر في :  4:26 م 0 تعليقات

 
نشر هذا المقال للمرة الأولى بعدد شهر مايو 2017 من مجلة الدوحة الثقافية

تجربة نقدية حافلة يزيد عمرها عن خمسين عاما قضاها الناقد المصري سمير فريد في إثراء الثقافة السينمائية. فريد، المُلقب بعميد النقاد العرب، وُلِد في مدينة القاهرة في الأول من ديسمبر عام 1943، وبدأ ممارسة النقد السينمائي منذ عام 1964 قبل تخرجه من قسم النقد بالمعهد العالي للفنون المسرحية بعام واحد، جاء بعدها تعيينه بجريدة الجمهورية عام 1965، واستمر يكتب لها ولمطبوعات أخرى مصرية وعربية أبرزها جريدة المصري اليوم من خلال عمود "صوت وصورة" الذي خرج فيه أحيانا عن سياق النقد السينمائي ليناقش مواضيعا اجتماعية وسياسية مختلفة. رحل فريد عن عالمنا في مطلع الشهر الماضي، تاركا إرثا هائلا من الدراسات والمقالات والبرامج التلفزيونية والكتب التي يصل عددها إلى 50 كتابا تنوعت بين النقد والتأريخ والترجمة، وقد ساهمت في تشكّل وعي أجيال، ويدين له الكثيرون بإثقال معرفتهم بفن السينما، الفن الذي كان عشقه قبل أن يكون مهنته.

تُرجمت العديد من كتابات فريد إلى لغات أجنبية، ما جعله يتخطى المحلية ويبرز اسمه على الساحة العالمية، فكانت كتاباته هي المدخل المثالي للتعرف على سينما عربية يجهلها العالم ويشتاق للمزيد. يتطور الأمر مع فريد ويصل للكتابة خصيصا لمجلة Ecran الفرنسية التي نشرت له سلسلة مقالات بعنوان "ستة أجيال في تاريخ السينما المصرية"، وسرعان ما نال عضوية الاتحاد الدولي للنقاد عام 1970، وكان حضوره دائما ومؤثرا في المحافل السينمائية الدولية، فلم ينقطع طيلة خمسين عاما عن حضور فعاليات مهرجان كان السينمائي الدولي، وهو المهرجان الذي قام بتكريمه عام 2000 حيث مُنح فريد ميدالية كان الذهبية. كما كرمه مهرجان أوسيان سيني فان بنيو دلهي في الهند عام 2012 عن إنجازه في مجال النقد السينمائي. وتعددت التكريمات والجوائز، لكن يبقى التكريم الأهم والأخير بجائزة الكاميرا الذهبية من مهرجان برلين الدولي في مطلع فبراير الماضي وقبل وفاته بأسابيع، وهي واحدة من أرفع الجوائز التي تُمنح للسينمائيين حول العالم، ويعد فريد أول مبدع يحصدها من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ومن ضمن ما كتبوه عن فريد في حيثيات منح هذه الجائزة: إنه واحد من أهم نقاد السينما فى العالم العربى، ويعتبر خبيرا سينمائيا تؤخذ بآرائه حول العالم، وهو الناقد الذى رافق مهرجان برلين لعقود طويلة .."

ويفتتح الناقد الألماني "كلاوس إيدر"، سكرتير عام الاتحاد الدولي للنقاد، كلمات الرثاء التي كتبها عن فريد بعد أيام من وفاته قائلا: "ليس من الشائع أن تُمنح الجوائز لناقد سينمائي، فبداخل العائلة السينمائية يعتبر الناقد هو الطفل المنبوذ ... لكن بالنظر للأعمال التي قدمها سمير فريد يتضح كم أن وجود النقاد يُعد ضروريا لإنعاش السينما وإبقائها"، وهنا فإيدر استطاع أن يلمس مكمن العظمة الحقيقية لفريد، وهو ليس بالتقدير نفسه بل بالقدرة على انتزاع التقدير رغم كونه "ناقدا"، أي يمارس أكثر المهن المكروهة داخل المنظومة السينمائية. وقد يطول الجدل في هذا الشأن، لكن المؤكد أنه لولا النقد السينمائي لم تكن السينما لتكتسب صفة الفن من الأساس، ولظل يُنظر لها بدونية كما كان الأمر في بدايات القرن العشرين، كونها مجرد نشاط للتسلية، ويرى كثيرون أن النقد السينمائي نشأ لهذا الغرض: فإذا كانت السينما تستطيع أن تستوعب نظاما نظريا له ثقله، فسوف تكون جديرة بالاحترام مثل بقية الفنون الأقدم. وهو الشيء الملموس في كافة كتابات المنظرين القدامى، فالسعي وراء نظرية للسينما هو سعي لتحقيق الكرامة لهذا الفن، ذلك منذ قام "فاشيل ليندساي" بنشر كتابه "فن الصورة المتحركة" عام 1915 وهو من عنوانه يبحث للسينما عن صفة فنية كالشعر والمسرح والرواية.

وما نتعلمه من تاريخ النقد السينمائي أن الكتابات التي تبقى هي تلك التي تتجاوز في علاقتها بالسينما التعليق أو الحكم على الأعمال، وتمتد لتشمل رصد الظواهر والتنبؤ والتصنيف وإبداع النظريات وإلهام الفنانين. فهناك كتابات "أندري بازان" التي ألهمت مخرجي الموجة الفرنسية الجديدة، وهناك مقالة "الكاميرا مثل القلم" التي كتبها "ألكسندر أستروك" في الأربعينيات وتنبأت بدخول السينما عصر السيميوطيقا واللغة البصرية، وهناك نظرية المؤلف auteur theory التي بدعها "أندرو ساريس" ورصدت ظاهرة تحول وظيفة مخرج الفيلم من منفذ تقني للنص إلى مؤلف ومبدع حقيقي للفيلم، وغيرها من الكتابات التي غيرت في مسار وتاريخ الثقافة السينمائية.

وعلى الصعيد العربي فلم تظهر على الساحة أطروحة نظرية مماثلة بنفس الشعبية والثقة والتأثير الذي تتمتع به أطروحة "الواقعية الجديدة" للراحل سمير فريد، وهو مَن صكّ هذا المصطلح ونظّر حوله. وتكمن أهمية فريد هنا، كونه الناقد العربي صاحب النظرية، وهو أمر نادر. وقد كانت البذرة الأولى لتلك الأطروحة بمقالة نشرت في مجلة "أدب ونقد" في ديسمبر 1986 بعنوان "واقعية جديدة تولد في مصر"، استعرض فيها فريد الملامح السينمائية لموجة جديدة من المخرجين هم "عاطف الطيب"، "محمد خان"، "داود عبد السيد" و"خيري بشارة". فهؤلاء برأيه نجحوا في تصوير الحياة اليومية في القاهرة بصدق وجمال، ونزلوا إلى الشوارع على نحو لم يحدث من قبل. كما عبروا عن الأزمة النفسية لجيل حرب أكتوبر 73. وقد واصل فريد متابعاته وتنظيره حول هذا الجيل بحماس لا يقل في إبداعه عن أعمالهم التي تناولها، حتى اختمرت رؤيته تماما فأصدر كتابه الأهم في مطلع التسعينيات بعنوان "الواقعية الجديدة في السينما المصرية".

ومن القضايا التي شغلت فريد قضية السينما المصرية والقطاع العام في فترة حكم عبد الناصر، نشر فريد دراسة مطولة حول هذا الأمر في عدد يناير 1973 من مجلة المعرفة السورية، وذلك بعد وفاة عبد الناصر وتوقف القطاع العام عن الإنتاج بعامين، ويختتم فريد رصده لكافة مراحل سطوة القطاع العام قائلا إن عدد الأفلام ذات المستوى الفني الذي أنتجها هذا القطاع يبلغ نحو ربع ما أنتجه. والأغلبية الساحقة لهذه الأفلام مأخوذة عن روايات ... ولا تتجاوز الأفلام الجيدة التي لم تعتمد على الأعمال الروائية أصابع اليد الواحدة. ورغم أن كل هذه الأفلام تنتمي إلى الواقعية التقليدية إلا أن عددا محدودا جدا منها تناول مشاكل المجتمع المصري المعاصر.

ويعود فريد لمناقشة القضية مرة أخرى في عموده بجريدة المصري اليوم بتاريخ 30 أبريل 2014 في مقال بعنوان "كارثة العودة للقطاع العام في السينما"، وذلك بعد أن ارتفعت بعض الأصوات تطالب الدولة بالعودة لإنتاج الأفلام بعد ثورة يناير 2011، وذكر فريد أن الإنتاج السينمائي المصري كان لفترة متكافئا مع مثيله الأوروبي والأميركي، ومع إنشاء القطاع العام في السينما عام 1963، بدأت السينما المصرية في التراجع... كان ذلك لأنه في الوقت الذي شهد فيه فن السينما في الستينات أكبر وأهم حركات التجديد في كل تاريخه من البرازيل إلى اليابان مرورا بباريس ولندن وروما والمجر وبولندا وتشيكوسلوفاكيا وألمانيا، بدأت مصر عصر توجيه السينما على الطريقة السوفيتية في الثلاثينيات، والتي كانت روسيا نفسها قد تمردت عليها بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي عام 1965. ويعود فريد ليضيف: "إن أفلام الدعاية السياسية ليست رديئة فنياً بالضرورة، بل إن بعضها من أعظم كلاسيكيات الفن السابع مثل أفلام إيزنشتين، ولكنها تهدر الكثير من طاقة الفنانين في التحايل على الضغوط التي تمارسها الدول كمنتج يستخدم السينما كوسيلة، ولا تعنيه حرية القضايا في كثير أو قليل."

قضايا حرية الفنان كانت تتصدر اهتمام فريد، فكان صوتا تقدميا، يعي جيدا أن الفن لا يقوم بدون تحرر الفنان، وفي كل قضايا المنع ومعارك الفنانين مع الرقابة وقف في صف الفنان. ومن أشهر الأفلام التي دافع عنها فيلم "الرسالة" للمخرج السوري مصطفى العقاد وكان اسم الفيلم في البداية هو "محمد رسول الله"، كتب فريد مقالا طويلا في عدد أبريل 1977 من مجلة الهلال بعنوان "ارفعوا أيديكم عن فيلم محمد رسول الله"، يستعرض فيه الأزمة التي تعرض لها الفيلم والتي أدت لمنعه من العرض في مصر، رغم عرضه في شتى دول العالم، انتقد فريد تعنت جهاز الرقابة والمؤسسات الدينية التي وقفت خلف هذا المنع، رغم التزام مخرج الفيلم بالضوابط التي اشترطتها تلك المؤسسات ومنها عدم تجسيد النبي محمد صوتا وصورة. وأصدر فريد كتابا بعنوان "تاريخ الرقابة على السينما في مصر"، كتب في مقدمته: "الرقابة كما وصفها "غودار" ذات يوم هي جوستابو على الروح، وسوف يظل كل مبدع في العالم يرى في الرقابة قيدا على حريته في التعبير."

والرقابة في نظر فريد تعبر عن السلطة السياسية الحاكمة: "..ويمكن تبين توجهات السلطة بوضوح من خلال ما تمنعه رقابتها أكثر مما تصرح به." ولم يكتف فريد بنقد المؤسسات الرقابية، فقد لاحظ أن هناك دور يلعبه بعض المثقفين في نفاق توجهات السلطة بالتحريض على المنع، وفي الفصل العاشر من كتابه يرصد فريد تلك الكتابات الصحافية المحرضة على المنع في أزمة فيلم "الأبواب المغلقة" للمخرج عاطف حتاتة. ويستحدث نفس المعركة مع أزمة فيلم "حلاوة روح" للمخرج سامح عبد العزيز، الفيلم الذي تدخل رئيس الوزراء المصري السابق لمنعه رغم إجازته رقابيا، نشر فريد على خلفية هذه الأزمة الشهيرة سلسلة مقالات بعنوان "النقد السينمائي السلفي"؛ واصفا أغلبية الكتابات النقدية التي نالها هذا الفيلم بالتحريضية. وتابع فريد: " ...من المؤكد أن عدم إعجاب أى ناقد بالفيلم لا يعنى بالضرورة أنه سلفى، فليس المقصود الناقد الذى يرى سلبيات فى السيناريو أو الإخراج أو التمثيل أو غير ذلك من فنون السينما، وإنما من يرفض الفيلم بسبب تناوله الجنس، أى بسبب موضوعه أو الأزياء التى يرتديها الممثلون."

واهتم فريد في تحليلاته النقدية بالإشارة للسياق الاجتماعي والسياسي للزمن الذي كتب فيه التحليل، وربط هذا السياق بالعمل الذي يناقشه، ما جعل مقالاته دائما صالحة للتجميع بداخل كتب؛ بحيث يعمل التحليل بجوار السياق عمل النقد والتأريخ في آن واحد. ولم يخجل فريد يوما من التراجع عن بعض آرائه القديمة لو تغير السياق الذي كتبت فيه، وأبرز تلك التراجعات كان عن المقال الذي كتبه في شبابه ضد سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة، بعد أن غابت عن الساحة السينمائية من منتصف الستينيات لتعود مع مطلع السبعينيات بفيلم "الخيط الرفيع" الذي استفز غضب فريد وأبناء جيله كونه دراما برجوازية مُرفهة في ظل نكسة عسكرية تشهدها مصر، لتتبعه حمامة بفيلم برجوازي آخر هو "إمبراطورية م" الذي قيلت فيه جملة على لسان أحد الأبطال تسفه من فكرة التظاهرات الاحتجاجية، مع صدور الفيلم في نفس توقيت اندلاع مظاهرات الطلبة الشهيرة عام 1972 التي طالبت السلطة بإعلان الحرب واستعادة الأراضي المحتلة، فكتب فريد مقالا هجوميا ساخرا من حمامة بعنوان "الليدي فاتن تلعب الكروكيت في نادي الجزيرة". ويقول بعد سنين أنه ندم على هذه الكتابات، خاصة بعد أن اختارته حمامة ليكتب كتابا عن مسيرتها السينمائية بدورة عام 1995 لمهرجان القاهرة السينمائي، والسبب أنها ارتأت في قلمه الموضوعية وأنه الوحيد الذي لن يجاملها. فكانت فرصة فريد للاعتذار عن حادثة السبعينيات والتعبير عن تقديره الحقيقي لتجربة حمامة التمثيلية.

واتسمت سيرة فريد بنزعة استكشافية للتجارب المختلفة وإخلاص في تسليط الضوء على المواهب الجديدة، سواء كانت هذه التجارب من النوع النقدي أو النوع الفني. أما الأول فيتمثل في إزالة الثرى عن تجربة الناقد "فتحي فرج" بعد وفاته، حيث جمّع فريد مقالاته من منشورات نوادي سينما القاهرة وقدمها في كتاب ممتع من إعداده، ثم اتخذ فريد قراره عام 2012 بالاستغناء عن مساحته في جريدة الجمهورية على أن تخصص تلك المساحة للمواهب النقدية الشابة. أما الثانية فتتمثل في انحيازه الدائم للأفلام التجريبية المختلفة سواء بمساعدة صناعها وإرشادهم بالنصائح أو بالحرص على تقديمها للقراء وتفسيرها لهم بشكل ممتع، فكان خير سند ومعاون لصناع السينما الجادة، وجمعته صداقات متعددة بهم منذ جيل شادي عبد السلام وحتى جيل كريم حنفي وهالة لطفي. وشارك فريد في تأسيس جمعية نقاد السينما المصريين، وترأس مهرجان القاهرة السينمائي عام 2014 في دورة شهد كل من ارتادها أنها الأقوى في تاريخ المهرجان."

0 التعليقات:

 
نشر هذا المقال للمرة الأولى بعدد شهر نوفمبر 2016 من مجلة الدوحة الثقافية
 
لم يتوقف الجدل الدائر بين النقاد ومحبى السينما منذ أعلن موقع هيئة الإذاعة البريطانية BBC فى أغسطس الماضى عن قائمة بأفضل مئة فيلم عالمى لهذا القرن وفق اختيارات 177 ناقدا سينمائيا من مختلف الدول، وكالعادة سادت حالة بين الرفض والقبول والتعليق والتساؤل حول نتائج تلك القائمة من قِبل المهتمين، كرد فعل لا يبدو مبنيًا وفق أى معيار سوى الذائقة الشخصية لكل مُعلق، وهو نفس المعيار الذى يُفترض أن اتبعه النقاد المشاركون فى صناعة القائمة أنفسهم.

فى هذا المقال لن تكون "الذائقة الشخصية" ردًا كافيًا لإنهاء الجدل والتسليم بالنتائج، ليس تجاوزا للسؤال الذى لم يحسمه فلاسفة الفن حتى الآن وهو "كيف تتفاوت الذائقة الفنية من شخص لآخر؟" إنما فقط رغبة ومحاولة للفهم، فصناعة القوائم بهذا الشكل أصبحت ظاهرة تستحق التوقف، ويُعد من الكسل اختزالها بعبارة "أذواق"، فهى عملية يشوبها نوع من المنهجية غير المعلنة سنحاول الكشف عنها، والمُرجح أن النقاش حول تلك القوائم وما تسببه من حالة زخم وحراك فى الفكر السينمائى هو أحد الأسباب التى تُصنع من أجلها.

السؤال الأنسب للبدء، إذن، لن يكون "كيف ولماذا يسير ذوق المشاركين على هذا النحو؟"، وإنما "هل هذا ذوق المشاركين بالفعل؟" أتوقف أمام ما كتبه الناقد الأميركى "سام آدمز"، أحد الذين شاركوا فى صنع اختيارات هذه القائمة، ورغم ذلك يكتب بعد صدورها مقالا بموقع Slate يبدو فيه غير متحمس للنتائج أو لفكرة الاستفتاءات التى ينتج عنها قوائم فى العموم، يقول آدمز: "إن الاستفتاءات بطبيعتها تقوم بدهس الغرابة والتفرد بالذوق الشخصى، لتُنتج فى النهاية ما تتقبله الرصانة العامة"، هذا الكلام يمكن إسقاطه على القوائم الفردية لكل ناقد على حدة، فهو يكشف عن تحدٍ يواجه كل مصوّت بإما أن ينغمس داخل الخصوصية المفرطة لتفضيلاته وإما أن يستبعد كثيرا من الأفلام التى يُشعِره تفضيلها بالذنب لأنها لا تتماشى مع الرصانة العامة، حتى لو تساهل مع فيلم منهم أو اثنين لتتسم قائمته بتوازن نسبى فسيظل غير معبر بدقة عن ميول الناقد.

ويبدى آدمز قلقه من إضفاء طابع مؤسسى على هذا النوع من القوائم، خاصة وهو يراها تعبر فقط عن الذوق الاعتيادى وانحياز النقاد للأفلام الجادة وأفلام "الآرت-هاوس" مع تهميش أفلام النوع كالكوميديا والحركة والجريمة. لا مفاجآت. صحيح أننا قد نجد بعض أفلام المخرج "ويس أندرسون" بالقائمة، وهى أفلام فنية يكفى وصفها بالظريفة، لكن من العسير أن نجد فيلما كوميديا بحق، من الذى يجعل المتفرج يضحك من أعماق معدته كأفلام الإنجليزى "إدغار رايت" مثلاً، فالنقاد لا يلطخون وجاهتهم بالانحياز لتلك النوعية من الأفلام، وإن كانوا واقعين فى غرامها سرًا.


هناك اعتبارات أخرى تحكم عملية الاختيار منها مثلا أقدمية الفيلم، حيث يذهب الظنٌ بأن قيمة العمل الفنى تزداد بمرور الزمن. فى تحقيق أعدته مجلة Indiewire، منذ أربع سنوات، يعلق المحرر "ديفد جينكنز" على هذا الأمر قائلاً: "هل ثمة مدة يتطلبها الفيلم كى يصبح صالحًا للاختيار؟ ويتابع: "فى قائمة عام 2002 بمجلة Sight & Sound (الصادرة عن معهد الفيلم البريطانى) لأفضل الأفلام فى التاريخ، قال الناقد "روبن وود" إن الوقت كان مبكرًا للتأكد إذا ما كان فيلم "معلمة البيانو - 2001" للمخرج النمساوى "مايكل هانيكه" جديرًا بتضمينه فى القائمة. هل يجب القول أن مدة عشر سنوات، مثلاً، كافية ليكتسب الفيلم الحالة الكلاسيكية؟"

تلك الملحوظة من جينكنز نلمسها أيضاً فى ذهاب المركزين الأول والثانى من قائمة الـBBC لأفلام "طريق مولهولاند" للمخرج ديفد لينش و "فى مزاج للحب" للمخرج وونغ كار-واى، والفيلمان من إنتاج عام 2000، أى التاريخ الأقدم فى النطاق الزمنى للقائمة. هذا الأمر تحقق فى الماضى مع فيلم "المواطن كين" الصادر عام 1941 للمخرج أورسن ويلز، حيث لم يدخل قائمة العشرة أفلام الأوائل باستفتاء مجلة Sight & Sound إلا عام 1962، أى أن الأمر تطلب حوالى عشرين عاماً من النقاد كى يقدروا هذا الفيلم التقدير الذى جعله يظل بعدها مُتصدرًا لتلك القائمة لمدة ستين عاماً على التوالى (تتجدد كل عشرة أعوام) باعتباره أفضل فيلم فى تاريخ السينما. ولم يهتز مركزه إلا عام 2012 حينما تمكن فيلم "فيرتيجو - 1958" للمخرج ألفريد هيتشكوك من إزاحته نحو المركز الثانى.

والطريف أن "فيرتيجو" لم يكن بين أفلام هيتشكوك التى حظت بنجاح جماهيرى أو نقدى لافت وقت صدورها. ويُرجع الناقد أوين جليبرمان بموقع EW الصحوة التدريجية والاهتمام المتنامى الذى اقتنصه الفيلم، على مر السنين، إلى مقالة نقدية كتبها "روبن وود" نجحت فى وضع الفيلم على أريكة التحليل النفسى وجعله هدفا للتناول بصور أعمق وأكثر جدية من قِبَل بقية النقاد. إن مسيرة فيلمى "المواطن كين" و"فيرتيجو" مع القوائم هى أقوى دليل على أن الأحكام تتبدل بصور متطرفة مع تعاقب الزمن، وأن الذائقة أو حتى الرصانة العامة مسألة مؤقتة ومحكومة بعوامل خارجية.

ومن الاعتبارات التى يصعب تجاهلها أيضا فى عملية صناعة القوائم هى التوازن الجغرافى، نلاحظ فى القائمة الأخيرة وجود ثلاثة أفلام من جنوب شرق آسيا فى المراكز العشرة الأولى، أى ما يقترب من الثُلث. لعل هذه الأفلام تستحق بالفعل الوجود بقائمة المئة لكن التقدم الواضح فى ترتيب مراكزها لا يعبر بالضرورة عن مستوى السينما الآسيوية أو مستوى تلك الأفلام بل عن هاجس لدى كل مصوت بتضمين أفلام مختلفة الإثنية بقائمته القصيرة كى لا يحصرها على تيار بعينه مثل هوليوود، لمسنا نفس الهاجس عند النقاد فى حادثة بمطلع هذا العام، حين روّجوا لحملة Oscars So White التى جاءت كرد هجومى على استبعاد أفلام الأعراق المختلفة والأقليات من سباق جوائز الأوسكار الأخيرة. هذه الثقافة الآخذة فى الانتشار أصبحت تهدد مصداقية النُخب وصانعى الرأى العام السينمائى لأنها تُحيل التنافس من اعتبارات فنية بحتة إلى اعتبارات حقوقية وعنصرية مضادة أو توازنات جغرافية تكون فى الغالب بلا معنى.

ولا يتوقف مبدأ التوازنات عند التنوع الجغرافى، بل يمتد ليشمل عناصر أخرى منها هوية الصانع. فعندما يُطلب من الناقد قائمة بعشرة أفلام يراها الأفضل فهو بطبيعته، وبما تؤكده الأرقام، لن يختار فيلمين أو أكثر لنفس صانع العمل، بل يقوده هاجس التنوّع ليكتفى بفيلم واحد لكل صانع كى يعطى فرصة لآخرين بالوجود فى قائمته. هذا التوازن فى حقيقته بلا معنى ويؤدى فى النهاية لاختفاء أفلام هامة من القوائم، ولعل أبرزها فى القائمة الأخيرة كان فيلم "اقتباس – 2002" للكاتب الفذّ "تشارلى كوفمان"، والذى فشل فى الدخول لقائمة المئة لأن أغلب النقاد فضلوا التصويت لفيلم آخر لكوفمان وهو "إشراقة أبدية للعقل الخاوى – 2004"، فأُخذ الأول بذنب الثانى.

ما سبق كان أحد الأسباب التى أدت بالمخرج والناقد الأميركى الكبير "بيتر بوجدانوفيتش" لكتابة مقال بموقع Indiewire يتحدث فيه عن تجربته مع استفتاء مجلة Sight & Sound لعام 2012 عن أفضل الأفلام فى التاريخ، حيث طُلب من بوجدانوفيتش المشاركة به. يقول: "...بعد صراع للطلوع بقائمة العشرة المفضلين، شعرت أن المهمة مستحيلة. أستطيع تبسيط قائمتى بأفضل عشرة مخرجين، لكنه عذاب ألا أضمن كل أفلامهم العظيمة. لنأخذ المخرج "جان رينوار" مثلًا .. كيف أختار بين "الوهم الكبير" و "قواعد اللعبة" و"الإنسان الوحشى" و"رقصة الكنكان الفرنسية" و"النهر" و"جريمة السيد لانج"؟ سيكون علىّ أن أضع ثلاثة أفلام على الأقل لرينوار فى قائمة العشرة الأفضل، ماذا سأفعل بعدها؟" ويعلق فى نهاية المقال بعد ذكر عديد من الأمثلة: ".. إن فكرة التقييم برمّتها معادية للفن وللثقافة السينمائية. فهى اختزال عبثى."

ويبدو أن الأمر لم يسلم حتى من الاعتبارات السياسية، هذا ما نلمسه بالغياب التام والمثير للريبة لأفلام المخرج "كلينت إيستوود" وهو الذى قدم من الروائع السينمائية الكثير بهذه الألفية، ترشح بعضها وفاز بعديد من الجوائز من بينها الأوسكار كفيلم "فتاة المليون دولار - 2004"، هذا التجاهل الأخير لإيستوود فى استفتاء الـBBC جاء متزامنًا مع مواقفه السياسية المثيرة للجدل وانحيازه المُعلن للحزب الجمهورى الأميركى والتصريح بأنه سينتخب المرشح "دونالد ترامب" بما يثيره الأخير من نفور لدى التيار الليبرالى المسيطر على الوسط النقدى والسينمائى. وعلى نفس الصعيد، يثير وجود فيلم "30 دقيقة بعد منتصف الليل – 2012" للمخرجة كاثرين بيجلو شكوكًا حول معايير المصوتين، فبانحيازهم لفيلم لا يميزه شىء سوى أن صانعته امرأة؛ يستمر هاجس التنوع الزائف؛ وهذه المرة تماشيا مع الموجة النسوية الحديثة بافتعال وجود نسائى داخل صناعة يحتكرها الذكور.

والملاحظ فى عملية صناعة القوائم أنها تبرز تباينات ليست ببسيطة مع تباين نوعية المصوتين، فقائمة أعدها النقاد مثل قائمة الـBBC أو مجلة Sight & Sound، تختلف عن قائمة أعدها الجمهور المولع بالسينما مثل قائمة موقع IMDb. نلاحظ فى الأخيرة ميل أكبر لأفلام النوع حيث يحتل فيلم "الأب الروحى" بجزأيه المركزين الثانى والثالث، بينما يقبع نفس الفيلم فى المركز الحادى والعشرين فى قائمة النقاد لمجلة Sight & Sound. أما فيلم "فارس الظلام- 2008" الذى يأتى فى المركز الرابع من قائمة IMDb فيأتى نفسه فى المركز الثالث والثلاثين فى قائمة الـBBC. أما "المواطن كين" الذى يصنفه غالبية النقاد بالفيلم الأعظم فى تاريخ السينما فيتوارى بالمركز الثامن والستين من قائمة IMDb الجماهيرية!

وتبدو قائمة معهد الفيلم الأميركى AFI لأفضل 100 فيلم أميركى فى التاريخ، والتى يتنوع صانعوها بين نقاد وصناع وفنانين ومؤرخين، هى الأكثر توفيقا فى نتائجها بين الأذواق الشتى، حيث يتصدر القائمة "المواطن كين" ويأتى بعده مباشرة "الأب الروحى" فى المركز الثانى. كما تبدو القائمة أكثر تصالحا مع الكوميديا حيث خطف فيلم "البعض يفضلونها ساخنة" للمخرج بيلى وايلدر المركز الثانى والعشرين، وهو مركز متقدم نسبة لفيلم كوميدى لا يكمن من ورائه أى هدف سوى المتعة والضحك الخالصين، تماماً مثل فيلم "الشقة – 1960" لوايلدر وقد جاء فى المركز الثمانين.

وبالحديث عن وايلدر الغرب ننتقل إلى وايلدر الشرق، أو المخرج المصرى "فطين عبد الوهاب"، صاحب الأفلام الكوميدية الأكثر خلودا فى تاريخ السينما العربية، والتى تماهى معها الجمهور وحفظ نصوصها عن ظهر قلب، وبالرغم من ذلك نجد تلك الأفلام إما مستبعدة أو مهمشة من قوائم الأفضل عربيا ومصريا، خاصة بالقائمة التى أخرجها مهرجان دبى السينمائى عام 2013 لأهم 100 فيلم عربى فى التاريخ، وجاءت شبه خالية من أفلام الكوميديا عموما، أما القوائم الأخرى التى أعدها سابقًا مهرجان القاهرة فنلاحظ أنها لم تهتم إلا بفيلم "مراتى مدير عام – 1966"، وليست مصادفة أنه يكاد يكون الفيلم الأوحد فى مسيرة عبد الوهاب الذى اختلطت فيه الكوميديا بمحتوى سياسى ونسوى جاد، أما أفلامه الأخرى التى اكتفت بالمتعة الخالصة مثل "إشاعة حب" أو "ابن حميدو" أو "الزوجة رقم 13" فهى مهمشة أو غائبة عن تلك القوائم.

وتستمر ظاهرة ازدراء الكوميديا فى القائمة التى أخرجها مهرجان الإسكندرية السينمائى عام 2014 لأفضل 30 فيلما مصريا صدرت فى الثلاثين عامًا الأخيرة. حيث اكتفت القائمة بفيلم كوميدى وحيد هو "البداية – 1986"، ولو دققنا فى الاختيار لن نجده تقديرا للكوميديا بل لمحتوى الفيلم السياسى. أما أفلام أخرى استهدفت المتعة الخالصة مثل "الناظر - 2000" للمخرج شريف عرفة، الذى لا يستطيع أحد إنكار أنه الفيلم الألمع والأعتى تأثيرا فى الثقافة الجماهيرية المصرية فى الثلاثين عام الأخيرة، بالإضافة لتمتعه بعناصر تقنية شديدة التميز. لكنه يذهب دائما ضحية تصنيف الكوميديا كفن من الدرجة الثانية. وهى ظاهرة عالمية كما وضّحنا، لكنها أكثر تفشيا بين النُخب العربية.

قوائم الأفضل .. بين المنهج والذائقة

كتب Amgad Gamal  |  نشر في :  4:17 م 0 تعليقات

 
نشر هذا المقال للمرة الأولى بعدد شهر نوفمبر 2016 من مجلة الدوحة الثقافية
 
لم يتوقف الجدل الدائر بين النقاد ومحبى السينما منذ أعلن موقع هيئة الإذاعة البريطانية BBC فى أغسطس الماضى عن قائمة بأفضل مئة فيلم عالمى لهذا القرن وفق اختيارات 177 ناقدا سينمائيا من مختلف الدول، وكالعادة سادت حالة بين الرفض والقبول والتعليق والتساؤل حول نتائج تلك القائمة من قِبل المهتمين، كرد فعل لا يبدو مبنيًا وفق أى معيار سوى الذائقة الشخصية لكل مُعلق، وهو نفس المعيار الذى يُفترض أن اتبعه النقاد المشاركون فى صناعة القائمة أنفسهم.

فى هذا المقال لن تكون "الذائقة الشخصية" ردًا كافيًا لإنهاء الجدل والتسليم بالنتائج، ليس تجاوزا للسؤال الذى لم يحسمه فلاسفة الفن حتى الآن وهو "كيف تتفاوت الذائقة الفنية من شخص لآخر؟" إنما فقط رغبة ومحاولة للفهم، فصناعة القوائم بهذا الشكل أصبحت ظاهرة تستحق التوقف، ويُعد من الكسل اختزالها بعبارة "أذواق"، فهى عملية يشوبها نوع من المنهجية غير المعلنة سنحاول الكشف عنها، والمُرجح أن النقاش حول تلك القوائم وما تسببه من حالة زخم وحراك فى الفكر السينمائى هو أحد الأسباب التى تُصنع من أجلها.

السؤال الأنسب للبدء، إذن، لن يكون "كيف ولماذا يسير ذوق المشاركين على هذا النحو؟"، وإنما "هل هذا ذوق المشاركين بالفعل؟" أتوقف أمام ما كتبه الناقد الأميركى "سام آدمز"، أحد الذين شاركوا فى صنع اختيارات هذه القائمة، ورغم ذلك يكتب بعد صدورها مقالا بموقع Slate يبدو فيه غير متحمس للنتائج أو لفكرة الاستفتاءات التى ينتج عنها قوائم فى العموم، يقول آدمز: "إن الاستفتاءات بطبيعتها تقوم بدهس الغرابة والتفرد بالذوق الشخصى، لتُنتج فى النهاية ما تتقبله الرصانة العامة"، هذا الكلام يمكن إسقاطه على القوائم الفردية لكل ناقد على حدة، فهو يكشف عن تحدٍ يواجه كل مصوّت بإما أن ينغمس داخل الخصوصية المفرطة لتفضيلاته وإما أن يستبعد كثيرا من الأفلام التى يُشعِره تفضيلها بالذنب لأنها لا تتماشى مع الرصانة العامة، حتى لو تساهل مع فيلم منهم أو اثنين لتتسم قائمته بتوازن نسبى فسيظل غير معبر بدقة عن ميول الناقد.

ويبدى آدمز قلقه من إضفاء طابع مؤسسى على هذا النوع من القوائم، خاصة وهو يراها تعبر فقط عن الذوق الاعتيادى وانحياز النقاد للأفلام الجادة وأفلام "الآرت-هاوس" مع تهميش أفلام النوع كالكوميديا والحركة والجريمة. لا مفاجآت. صحيح أننا قد نجد بعض أفلام المخرج "ويس أندرسون" بالقائمة، وهى أفلام فنية يكفى وصفها بالظريفة، لكن من العسير أن نجد فيلما كوميديا بحق، من الذى يجعل المتفرج يضحك من أعماق معدته كأفلام الإنجليزى "إدغار رايت" مثلاً، فالنقاد لا يلطخون وجاهتهم بالانحياز لتلك النوعية من الأفلام، وإن كانوا واقعين فى غرامها سرًا.


هناك اعتبارات أخرى تحكم عملية الاختيار منها مثلا أقدمية الفيلم، حيث يذهب الظنٌ بأن قيمة العمل الفنى تزداد بمرور الزمن. فى تحقيق أعدته مجلة Indiewire، منذ أربع سنوات، يعلق المحرر "ديفد جينكنز" على هذا الأمر قائلاً: "هل ثمة مدة يتطلبها الفيلم كى يصبح صالحًا للاختيار؟ ويتابع: "فى قائمة عام 2002 بمجلة Sight & Sound (الصادرة عن معهد الفيلم البريطانى) لأفضل الأفلام فى التاريخ، قال الناقد "روبن وود" إن الوقت كان مبكرًا للتأكد إذا ما كان فيلم "معلمة البيانو - 2001" للمخرج النمساوى "مايكل هانيكه" جديرًا بتضمينه فى القائمة. هل يجب القول أن مدة عشر سنوات، مثلاً، كافية ليكتسب الفيلم الحالة الكلاسيكية؟"

تلك الملحوظة من جينكنز نلمسها أيضاً فى ذهاب المركزين الأول والثانى من قائمة الـBBC لأفلام "طريق مولهولاند" للمخرج ديفد لينش و "فى مزاج للحب" للمخرج وونغ كار-واى، والفيلمان من إنتاج عام 2000، أى التاريخ الأقدم فى النطاق الزمنى للقائمة. هذا الأمر تحقق فى الماضى مع فيلم "المواطن كين" الصادر عام 1941 للمخرج أورسن ويلز، حيث لم يدخل قائمة العشرة أفلام الأوائل باستفتاء مجلة Sight & Sound إلا عام 1962، أى أن الأمر تطلب حوالى عشرين عاماً من النقاد كى يقدروا هذا الفيلم التقدير الذى جعله يظل بعدها مُتصدرًا لتلك القائمة لمدة ستين عاماً على التوالى (تتجدد كل عشرة أعوام) باعتباره أفضل فيلم فى تاريخ السينما. ولم يهتز مركزه إلا عام 2012 حينما تمكن فيلم "فيرتيجو - 1958" للمخرج ألفريد هيتشكوك من إزاحته نحو المركز الثانى.

والطريف أن "فيرتيجو" لم يكن بين أفلام هيتشكوك التى حظت بنجاح جماهيرى أو نقدى لافت وقت صدورها. ويُرجع الناقد أوين جليبرمان بموقع EW الصحوة التدريجية والاهتمام المتنامى الذى اقتنصه الفيلم، على مر السنين، إلى مقالة نقدية كتبها "روبن وود" نجحت فى وضع الفيلم على أريكة التحليل النفسى وجعله هدفا للتناول بصور أعمق وأكثر جدية من قِبَل بقية النقاد. إن مسيرة فيلمى "المواطن كين" و"فيرتيجو" مع القوائم هى أقوى دليل على أن الأحكام تتبدل بصور متطرفة مع تعاقب الزمن، وأن الذائقة أو حتى الرصانة العامة مسألة مؤقتة ومحكومة بعوامل خارجية.

ومن الاعتبارات التى يصعب تجاهلها أيضا فى عملية صناعة القوائم هى التوازن الجغرافى، نلاحظ فى القائمة الأخيرة وجود ثلاثة أفلام من جنوب شرق آسيا فى المراكز العشرة الأولى، أى ما يقترب من الثُلث. لعل هذه الأفلام تستحق بالفعل الوجود بقائمة المئة لكن التقدم الواضح فى ترتيب مراكزها لا يعبر بالضرورة عن مستوى السينما الآسيوية أو مستوى تلك الأفلام بل عن هاجس لدى كل مصوت بتضمين أفلام مختلفة الإثنية بقائمته القصيرة كى لا يحصرها على تيار بعينه مثل هوليوود، لمسنا نفس الهاجس عند النقاد فى حادثة بمطلع هذا العام، حين روّجوا لحملة Oscars So White التى جاءت كرد هجومى على استبعاد أفلام الأعراق المختلفة والأقليات من سباق جوائز الأوسكار الأخيرة. هذه الثقافة الآخذة فى الانتشار أصبحت تهدد مصداقية النُخب وصانعى الرأى العام السينمائى لأنها تُحيل التنافس من اعتبارات فنية بحتة إلى اعتبارات حقوقية وعنصرية مضادة أو توازنات جغرافية تكون فى الغالب بلا معنى.

ولا يتوقف مبدأ التوازنات عند التنوع الجغرافى، بل يمتد ليشمل عناصر أخرى منها هوية الصانع. فعندما يُطلب من الناقد قائمة بعشرة أفلام يراها الأفضل فهو بطبيعته، وبما تؤكده الأرقام، لن يختار فيلمين أو أكثر لنفس صانع العمل، بل يقوده هاجس التنوّع ليكتفى بفيلم واحد لكل صانع كى يعطى فرصة لآخرين بالوجود فى قائمته. هذا التوازن فى حقيقته بلا معنى ويؤدى فى النهاية لاختفاء أفلام هامة من القوائم، ولعل أبرزها فى القائمة الأخيرة كان فيلم "اقتباس – 2002" للكاتب الفذّ "تشارلى كوفمان"، والذى فشل فى الدخول لقائمة المئة لأن أغلب النقاد فضلوا التصويت لفيلم آخر لكوفمان وهو "إشراقة أبدية للعقل الخاوى – 2004"، فأُخذ الأول بذنب الثانى.

ما سبق كان أحد الأسباب التى أدت بالمخرج والناقد الأميركى الكبير "بيتر بوجدانوفيتش" لكتابة مقال بموقع Indiewire يتحدث فيه عن تجربته مع استفتاء مجلة Sight & Sound لعام 2012 عن أفضل الأفلام فى التاريخ، حيث طُلب من بوجدانوفيتش المشاركة به. يقول: "...بعد صراع للطلوع بقائمة العشرة المفضلين، شعرت أن المهمة مستحيلة. أستطيع تبسيط قائمتى بأفضل عشرة مخرجين، لكنه عذاب ألا أضمن كل أفلامهم العظيمة. لنأخذ المخرج "جان رينوار" مثلًا .. كيف أختار بين "الوهم الكبير" و "قواعد اللعبة" و"الإنسان الوحشى" و"رقصة الكنكان الفرنسية" و"النهر" و"جريمة السيد لانج"؟ سيكون علىّ أن أضع ثلاثة أفلام على الأقل لرينوار فى قائمة العشرة الأفضل، ماذا سأفعل بعدها؟" ويعلق فى نهاية المقال بعد ذكر عديد من الأمثلة: ".. إن فكرة التقييم برمّتها معادية للفن وللثقافة السينمائية. فهى اختزال عبثى."

ويبدو أن الأمر لم يسلم حتى من الاعتبارات السياسية، هذا ما نلمسه بالغياب التام والمثير للريبة لأفلام المخرج "كلينت إيستوود" وهو الذى قدم من الروائع السينمائية الكثير بهذه الألفية، ترشح بعضها وفاز بعديد من الجوائز من بينها الأوسكار كفيلم "فتاة المليون دولار - 2004"، هذا التجاهل الأخير لإيستوود فى استفتاء الـBBC جاء متزامنًا مع مواقفه السياسية المثيرة للجدل وانحيازه المُعلن للحزب الجمهورى الأميركى والتصريح بأنه سينتخب المرشح "دونالد ترامب" بما يثيره الأخير من نفور لدى التيار الليبرالى المسيطر على الوسط النقدى والسينمائى. وعلى نفس الصعيد، يثير وجود فيلم "30 دقيقة بعد منتصف الليل – 2012" للمخرجة كاثرين بيجلو شكوكًا حول معايير المصوتين، فبانحيازهم لفيلم لا يميزه شىء سوى أن صانعته امرأة؛ يستمر هاجس التنوع الزائف؛ وهذه المرة تماشيا مع الموجة النسوية الحديثة بافتعال وجود نسائى داخل صناعة يحتكرها الذكور.

والملاحظ فى عملية صناعة القوائم أنها تبرز تباينات ليست ببسيطة مع تباين نوعية المصوتين، فقائمة أعدها النقاد مثل قائمة الـBBC أو مجلة Sight & Sound، تختلف عن قائمة أعدها الجمهور المولع بالسينما مثل قائمة موقع IMDb. نلاحظ فى الأخيرة ميل أكبر لأفلام النوع حيث يحتل فيلم "الأب الروحى" بجزأيه المركزين الثانى والثالث، بينما يقبع نفس الفيلم فى المركز الحادى والعشرين فى قائمة النقاد لمجلة Sight & Sound. أما فيلم "فارس الظلام- 2008" الذى يأتى فى المركز الرابع من قائمة IMDb فيأتى نفسه فى المركز الثالث والثلاثين فى قائمة الـBBC. أما "المواطن كين" الذى يصنفه غالبية النقاد بالفيلم الأعظم فى تاريخ السينما فيتوارى بالمركز الثامن والستين من قائمة IMDb الجماهيرية!

وتبدو قائمة معهد الفيلم الأميركى AFI لأفضل 100 فيلم أميركى فى التاريخ، والتى يتنوع صانعوها بين نقاد وصناع وفنانين ومؤرخين، هى الأكثر توفيقا فى نتائجها بين الأذواق الشتى، حيث يتصدر القائمة "المواطن كين" ويأتى بعده مباشرة "الأب الروحى" فى المركز الثانى. كما تبدو القائمة أكثر تصالحا مع الكوميديا حيث خطف فيلم "البعض يفضلونها ساخنة" للمخرج بيلى وايلدر المركز الثانى والعشرين، وهو مركز متقدم نسبة لفيلم كوميدى لا يكمن من ورائه أى هدف سوى المتعة والضحك الخالصين، تماماً مثل فيلم "الشقة – 1960" لوايلدر وقد جاء فى المركز الثمانين.

وبالحديث عن وايلدر الغرب ننتقل إلى وايلدر الشرق، أو المخرج المصرى "فطين عبد الوهاب"، صاحب الأفلام الكوميدية الأكثر خلودا فى تاريخ السينما العربية، والتى تماهى معها الجمهور وحفظ نصوصها عن ظهر قلب، وبالرغم من ذلك نجد تلك الأفلام إما مستبعدة أو مهمشة من قوائم الأفضل عربيا ومصريا، خاصة بالقائمة التى أخرجها مهرجان دبى السينمائى عام 2013 لأهم 100 فيلم عربى فى التاريخ، وجاءت شبه خالية من أفلام الكوميديا عموما، أما القوائم الأخرى التى أعدها سابقًا مهرجان القاهرة فنلاحظ أنها لم تهتم إلا بفيلم "مراتى مدير عام – 1966"، وليست مصادفة أنه يكاد يكون الفيلم الأوحد فى مسيرة عبد الوهاب الذى اختلطت فيه الكوميديا بمحتوى سياسى ونسوى جاد، أما أفلامه الأخرى التى اكتفت بالمتعة الخالصة مثل "إشاعة حب" أو "ابن حميدو" أو "الزوجة رقم 13" فهى مهمشة أو غائبة عن تلك القوائم.

وتستمر ظاهرة ازدراء الكوميديا فى القائمة التى أخرجها مهرجان الإسكندرية السينمائى عام 2014 لأفضل 30 فيلما مصريا صدرت فى الثلاثين عامًا الأخيرة. حيث اكتفت القائمة بفيلم كوميدى وحيد هو "البداية – 1986"، ولو دققنا فى الاختيار لن نجده تقديرا للكوميديا بل لمحتوى الفيلم السياسى. أما أفلام أخرى استهدفت المتعة الخالصة مثل "الناظر - 2000" للمخرج شريف عرفة، الذى لا يستطيع أحد إنكار أنه الفيلم الألمع والأعتى تأثيرا فى الثقافة الجماهيرية المصرية فى الثلاثين عام الأخيرة، بالإضافة لتمتعه بعناصر تقنية شديدة التميز. لكنه يذهب دائما ضحية تصنيف الكوميديا كفن من الدرجة الثانية. وهى ظاهرة عالمية كما وضّحنا، لكنها أكثر تفشيا بين النُخب العربية.

0 التعليقات:

نشر هذا المقال للمرة الأولى بعدد شهر ديسمبر 2016 من مجلة الوحة الثقافية

هل نستيقظ يومًا على خبر فوز "تشارلي كوفمان" بجائزة نوبل للأدب عن نصوصه السينمائية؟ السؤال الذى كان ليصنف كمزحة قبل عامين، أصبح يراود بجدية ذهن الكثيرين من عُشاق السينما بعد نتائج الجائزة فى العامين الأخيرين، والتى ذهبت لكل من الصحفية البيلاروسية "سفيتلانا أليكسيفيتش" ثم إلى المغنى الأميركي والشاعر "بوب ديلان"، بما أثاره الاختياران من صدمة لمتابعي الجائزة بسبب تمردها على المفهوم السائد للأدب.

ويتفق كثيرون على أن التتويجات الأخيرة تُدلل على تغيّر نوعي فى سياسة الأكاديمية السويدية القائمة على منح الجائزة، حيث يبدو أن توسيع رقعة الفائزين لم يتم بشكل عارض، أى أن الجوائز لا تستهدف بالضرورة تقدير أشعار ديلان الغنائية أو كتابات أليكسيفيتش بعينهما بقدر ما تهدف لتوجيه خطاب ضمني أو إعلان بأن الأدب يتسع لأشكال عديدة من التعبير، ويمكن توجيهه من خلال وسائط أخرى غير الرواية والشعر والنثر المطبوع أو المدون بالشكل المتعارف عليه.

إن الجوائز التى قدمتها الأكاديمية ليست بجوائز عن الأدب وحسب، بل هى جوائز إلى الأدب نفسه، فأكبر خدمة يمكن تقديمها للأدب حاليا هو أن نعيد التفكير فى ماهيته، أن نبدأ من الصفر بهدمه وإعادة بنائه، أن نستفز الوقار الذى يحده فيتحرر من قيوده ويكشف عن جوهره، لعلنا بذلك نفهمه بشكل أعمق. ذلك يعد محور الإجابة على سؤال إمكانية ذهاب الجائزة لأحد كُتاب النصوص السينمائية فى الأعوام القادمة، والذى يأخذنا إلى السؤال الرئيسي وهو "هل يُعد النص السينمائى أدبًا من الأساس؟"

الاعتراض الأبرز الذى يقدمه الطرف المحافظ هو أن النص السينمائي مثله مثل الشعر الغنائى لا يكتملان بذاتهما، وهما بحاجة إلى وسيط آخر يكفل لهما وسائل مساعدة للتعبير، كاللحن والآلة الموسيقية والتصوير والمونتاج والأداء. وهناك عدة زوايا للرد على تلك الحجة. أولها، بلا شك، هى الكتابات المسرحية التى أصبح تصنيفها على الأدب أمرًا واقعًا يقر به المحافظون قبل المجددين، فهذه النصوص تدرس فى كليات ومعاهد الآداب تحت مسمى "الدراما"، ولن تجد عاقلًا ينزع الصفة الأدبية مثلا عن نصوص شكسبير. بالرغم من أنه ينطبق عليها نفس الشروط التى أدت لاستبعاد الشعر الغنائي والنص السينمائي من قائمة الأدب.

فالنص المسرحي أيضًا كُتب لكى يؤدى وينتقل إلى وسيط آخر يكفل له وسائل مساعدة للتعبير كالأداء والإخراج والأزياء. وتذهب نظريات عدة لاعتبار المسرح هو الأب الروحي للسينما. لكن العوامل المساعدة فى التعبير لم تمنعنا من إدراك التفوق الأدبي للنص، والتفريق بين رداءة أو جودة العرض المسرحي ككل وبين رداءة وجودة النص المبني عليه. الفصل لم يكن صعبًا وهذا ما ميّز كُتاب عن كُتاب. نحن نعلم أن تينيسي ويليامز كاتب مسرحي فذّ سواء قرأنا نصوصه مدونة أو شاهدناها فى عروض، كما نعلم أن كوينتن تارانتينو كاتب سينمائى فذّ.

وليس بغريب أن الأخير يصرح دائما فى لقائاته عن رفضه التعامل مع النص السينمائي باعتباره مسودة إرشادية وأنه حين يكتب فهو يقدم أفضل ما عنده كما لو أن السيناريو سيباع مثلما تباع الرويات فى حالة لم يتمكن من تنفيذه كفيلم، والحق أن نصوصه تُباع بالفعل فى متاجر الكتب مثلما تُباع النصوص السينمائية للأخوين كوين ووودى آلن وتشارلي كوفمان وإنغمار بيرغمان ونورا إيفرون وغيرهم، لكننا لاحظنا التفوق فى نصوص أفلام هؤلاء قبل الحاجة لقراءتها؛ ما يؤكد أن الفصل بين النص والعمل المكتمل لا يحتاج حتى لقراءة النص المُدوَن، حتى أن أغلب المهرجانات السينمائية والمسابقات تمنح جوائزها للنصوص الأفضل من خلال مشاهدة الفيلم لا قراءة النص.

وإن كانت هناك إمكانية لقراءة نص مسرحى فنفس الإمكانية مازالت متاحة مع النصوص السينمائية، فهى تُقرأ سواء بطبعات تجارية للجمهور وإن لم يحدث فتُقرأ بواسطة العاملين على إنتاج الفيلم والممثلين وغيرهم، ويجب أن تحتوي على عناصر تميز لإقناع هؤلاء بالاستثمار أو المشاركة فى تحويل النص إلى فيلم، ما يسقط الادعاء بأنها مجرد نصوص هلامية أو إرشادية، فهى بطبيعتها مكافئة للنص المسرحي لدرجة، ومن الازدواجية التعامل معهما باعتبار آخر. ولكن تبقى الإشكالية بأن إتاحة نصوص سينمائية للقراءة ليست عملية شائعة على المستوى الجماهيري، ما يأخذنا للرد الثانى وهو ضرورة إعادة تفسير التعريف الأدبي.

والتعريفات الأدبية تتنوع وتختلف بحسب اللغة والثقافة والزمن ومعايير الجمال وتطور مفاهيمنا عن اللغة، لذا يقول سايمون وديليس ريان فى دراسة لهما حول ماهية الأدب: "... فى الحقيقة، الشىء الوحيد المؤكد بشأن تعريف الأدب هو أن هذا التعريف سيتغير." لكن إن كنا نستهدف الرد على تيار محافظ فلنتناول أكثر تعريفات الأدب كلاسيكيةً وتجريدًا حيث تبدأ الموسوعة البريطانية فى تعريفها بأنه الأعمال المكتوبة، ويضيف تعريف قاموس أوكسفورد أنها الأعمال المكتوبة ذات التفوق والتميز الفني، وتذهب تعريفات أخرى لاعتباره كل نص مكتوب اختلف فى طبيعته عن الخطاب العادي المستخدم فى الحياة العملية اليومية وتضمّن قيمة فنية أو فكرية.

وكل ما سبق يمكن انطباقه على النص السينمائي، ولكن مع التوقف عند اللفظة الإنجليزية "writing"، والتى تتمتع بأبعاد أوسع من مرادفها العربى "كتابة"، فمثلا نجد الملحن الموسيقي فى الغرب يُطلق عليه "كاتب"، رغم أن تأليف لحن لا يحتاج للكتابة بمعناها التدويني ويحتمل الشفاهية والتواتر لأنه ليس الا نظم لنغمات الطبيعة. (قدمت فرقة "البيتلز" مجموعة من أعظم الألحان فى القرن العشرين مع اعتراف أفرادها بأنهم لا يستطيعون قراءة أو كتابة النوتة الموسيقية!) نخلص من ذلك بأن لفظة "كتابة" فى التعريفات تستهدف فعل التأليف بمعناه الواسع، سواء كان بالتدوين (أى نقش حروف على ورق)، أو بالطرق الأخرى للإبداع، وذلك كان الشق اللغوي فى الرد على الحجة التعريفية.

أما الشق الجوهري فيتمثل فى سؤال أين يتشكل النص؟ فى العقل أم على الورق؟ أو بكلمات أخرى: هل يكتب المبدع لأن لديه ما يقوله أم لأن فى يده قلمًا؟! ونحن حين نُعلي من شأن نص ما ونحتكر فيه صفة الأدب لمجرد أنه يُتداول فى شكل مدون فنحن بذلك ننحاز للإجابة الأخيرة، وهى إجابة تحط من شأن المبدع وتقترب به من وظيفة الآلة الكاتبة. النص الإبداعي إذن يجب أن ينبع ويتشكل من العقل، ما يعني أن الأدب يظل أدبًا بغض النظر عما إذا كان التدوين هو الوسيط التعبيري النهائي، أو لا.

وأستدل بمقال الأديب المصرى "محمد سلماوي" بجريدة الأهرام دفاعا عن فوز ديلان بالجائزة، حيث كتب: "الأدب فى عرف البعض هو ما يطبع فى الكتب فقط، بينما تراثنا العربي لا يعرف مثل هذا الفصل التعسفي، فالشعر الجاهلي لم يكن يطبع فى كتب وانما كان يلقى فى الأسواق، ولم يقلل من قيمة شعر أحمد رامى أنه كان يغنى أكثر مما يصدر فى دواوين."

حتى لو أقررنا بأن النصوص التى تردنا عبر وسائط أخرى غير التدوين تشوبها مؤثرات خارجية تحول دون إدراك منتهى الأصالة بالنص، فتلك المشكلة تواجه النصوص المدونة نفسها حين تمر ببوابة الترجمة. يقول "روجر سكروتون" فى كتابه عن الجمال: "إننا إذا ربطنا جمال رواية معينة بشكل وثيق بصوتها، فلنضع فى اعتبارنا جيدًا أن الرواية حين تترجم إلى لغة أخرى فهى تتحول إلى عمل فني مختلف عن الرواية نفسها بلغتها الأصلية"، لنتذكر أن لجنة نوبل قرأت أعمال ساراماجو وماركيز ونجيب محفوظ وغيرهم بنسخ مترجمة، وأن التجربة بالتأكيد ليست مطابقة لقراءة نفس الأعمال بلغاتها الأصلية، خاصة لو وافقنا على التفسيرات الكلاسيكية للأدب التى تعلي من شأن الجماليات النثرية بالتراكيب والأصوات المرتبطة باللغة، فهى جماليات غالبا ما تسقط بالترجمة.

لكن ما سبق لم يمنع القراء باختلاف ألسنتهم من الإعجاب بروايات الكُتاب السابقين؛ لذا يتابع سكروتون نظريته مُرجعا سبب هذا الإعجاب إلى العامل الحسي، فيعلق على ما قاله بأنه "يتضمن إغفالا للشىء الممتع فى فن الرواية وهو قصة الرواية والشكل الذى تتابع به أحداثها فى عالم خيالي والتأملات التى تصحب الحبكة وتثري دلالاتها... إن الترتيب الذى ينساب به السرد القصصي، وعنصر التشويق والإثارة، والتوازن بين السرد والحوار وتعليق الروائي، جميعها سمات حسية، انها تعتمد على التوقع ثم تحرير الأفكار، والانسياب المنظم للرواية فى إدراكنا." نخرج من حديث سكروتون بأن النص الإبداعي المتميز قادر على الولوج إلى حواسنا وفرض أصالته والسمو فوق الشوائب التى قد تُخلّفها الأنظمة أو الوسائط المتبعة فى إيصاله.

ويناقش "تيد نانيشيلي" فى كتابه "فلسفة النص السينمائي" الجماليات التى تعطي النص صفة الأدب. ففى أحد فصوله يتناول قول الناقد أدريان مارتن الذى يرفض أدبية النص السينمائى قائلا:" إنها هياكل عظمية بلا لحم، أشكال بلا حياة، حكايات بلا شعر أو استعارة"، ويستعين نانيشيلي بكتابات أستاذ الفلسفة الأدبية "بيتر لامارك" فى دحض ادعاء مارتن، فالأدوات الشعرية كالاستعارة ليست كافية أو أساسية للحكم بأدبية النص، وهذا التعميم قد يسقط الصفة الأدبية عن النصوص الروائية نفسها، ولن يبقي أدبًا سوى الشعر، ويختم نانيشيلي تعليقه ساخرا "لو أن الاستعارة هى ما تصنع الأدب، لكان علينا اعتبار بطاقات المعايدة أدبًا!"

وينحاز نانيشيلي لتعريف آخر للأدب صاغه الفيلسوف الأميركى "مونرو بيرسلي" فالعمل الأدبى بنظره "هو خطاب يكون فيه جزء مهم من المعنى ضمنيًا"، هذا التعريف يذهب بالاستعارة لمفهوم سيمنطيقي أكثر رحابة من اختزال المفهوم اللغوي لمارتين، ويشير بيرسلي نفسه أنه يمكن للنص السينمائي أن يكون أدبًا لو حقق شرط التضمين.

يقوم نانيشيلي بتطبيق نظرية بيرسلي على المشهد الافتتاحي لفيلم "المواطن كين"، حيث يقوم النص بوصف نثري لما نشاهده من ظلام غالب وشرفة مربعة صغيرة مضيئة وسط العتمة أشبه بختم ورقي أعلى قصر زاندو المهيب، وهناك أسلاك حديدية أمام الكاميرا تفصلها عن القصر وتسيطر على الشاشة. يذهب نانيشيلى أن بالنص تصوير بديعى يقوم بتضمين المعنى ودعم تيمات الفيلم الرئيسية، وهى وحدة وانعزال البطل "كين" كما يعبر عن سطوته.

وختامًا، فإن الأدوات البصرية والتقنية والأدائية المساعدة فى السينما تُكمل الفيلم لا النص، ولا تنتقص من أدبيته، فقط ترسم له مضمارا مختلفا للسير وتحديات من نوع آخر، ليس ثمة تفوق بل تنوع، مثلما يأخذ الشاعر القافية فى الحسبان بينما لا يتقيد بها الناثر، وهذا لا يُعلي من أدبية الأخير لأنه أكثر تحررا. ولو كان الإسهاب الروائى أكثر قيمة من التكثيف السينمائي بصفة دائمة، لما ختم الفيلسوف والعالم الفرنسي "باسكال" أحد خطاباته باعتذار على أنه لم يجد الوقت لكتابة خطاب أقصر!

لن تزداد السينما شرفًا بانتمائها للأدب أو العكس، فالسينما هى خاتم الفنون وجامعها ولم تحظ بلقب "الفن السابع" سوى لقدرتها السحرية على احتواء بقية الفنون، وذلك بدرجات ومقادير تختلف من فيلم لآخر، لذا فالسينما تستطيع أن تكون أى شىء. نعم، هناك الكثير من الأفلام التى لا تحوي بداخلها أى قيمة أدبية أو غير أدبية، ولكن حال الروايات والأشعار ليس أفضل كثيرًا. المهم أن الجيد فى السينما لا يقل عن الجيد فى الرواية والشعر، السينما تعمقت فى كل المواضيع التى تؤرق الإنسان، ناقشت الحب والفلسفة والعدل والوجود والموت والحرية والحق والجمال. ربما ما قاله الكاتب الأميركى "تشارلز ديمر" هو الخلاصة: "ينبغى اعتبار النص السينمائي أدبًا .. فى حال استحق أن يكون."

نوبل للأدب .. هل لكُتّاب السينما نصيب؟

كتب Amgad Gamal  |  نشر في :  4:01 م 0 تعليقات

نشر هذا المقال للمرة الأولى بعدد شهر ديسمبر 2016 من مجلة الوحة الثقافية

هل نستيقظ يومًا على خبر فوز "تشارلي كوفمان" بجائزة نوبل للأدب عن نصوصه السينمائية؟ السؤال الذى كان ليصنف كمزحة قبل عامين، أصبح يراود بجدية ذهن الكثيرين من عُشاق السينما بعد نتائج الجائزة فى العامين الأخيرين، والتى ذهبت لكل من الصحفية البيلاروسية "سفيتلانا أليكسيفيتش" ثم إلى المغنى الأميركي والشاعر "بوب ديلان"، بما أثاره الاختياران من صدمة لمتابعي الجائزة بسبب تمردها على المفهوم السائد للأدب.

ويتفق كثيرون على أن التتويجات الأخيرة تُدلل على تغيّر نوعي فى سياسة الأكاديمية السويدية القائمة على منح الجائزة، حيث يبدو أن توسيع رقعة الفائزين لم يتم بشكل عارض، أى أن الجوائز لا تستهدف بالضرورة تقدير أشعار ديلان الغنائية أو كتابات أليكسيفيتش بعينهما بقدر ما تهدف لتوجيه خطاب ضمني أو إعلان بأن الأدب يتسع لأشكال عديدة من التعبير، ويمكن توجيهه من خلال وسائط أخرى غير الرواية والشعر والنثر المطبوع أو المدون بالشكل المتعارف عليه.

إن الجوائز التى قدمتها الأكاديمية ليست بجوائز عن الأدب وحسب، بل هى جوائز إلى الأدب نفسه، فأكبر خدمة يمكن تقديمها للأدب حاليا هو أن نعيد التفكير فى ماهيته، أن نبدأ من الصفر بهدمه وإعادة بنائه، أن نستفز الوقار الذى يحده فيتحرر من قيوده ويكشف عن جوهره، لعلنا بذلك نفهمه بشكل أعمق. ذلك يعد محور الإجابة على سؤال إمكانية ذهاب الجائزة لأحد كُتاب النصوص السينمائية فى الأعوام القادمة، والذى يأخذنا إلى السؤال الرئيسي وهو "هل يُعد النص السينمائى أدبًا من الأساس؟"

الاعتراض الأبرز الذى يقدمه الطرف المحافظ هو أن النص السينمائي مثله مثل الشعر الغنائى لا يكتملان بذاتهما، وهما بحاجة إلى وسيط آخر يكفل لهما وسائل مساعدة للتعبير، كاللحن والآلة الموسيقية والتصوير والمونتاج والأداء. وهناك عدة زوايا للرد على تلك الحجة. أولها، بلا شك، هى الكتابات المسرحية التى أصبح تصنيفها على الأدب أمرًا واقعًا يقر به المحافظون قبل المجددين، فهذه النصوص تدرس فى كليات ومعاهد الآداب تحت مسمى "الدراما"، ولن تجد عاقلًا ينزع الصفة الأدبية مثلا عن نصوص شكسبير. بالرغم من أنه ينطبق عليها نفس الشروط التى أدت لاستبعاد الشعر الغنائي والنص السينمائي من قائمة الأدب.

فالنص المسرحي أيضًا كُتب لكى يؤدى وينتقل إلى وسيط آخر يكفل له وسائل مساعدة للتعبير كالأداء والإخراج والأزياء. وتذهب نظريات عدة لاعتبار المسرح هو الأب الروحي للسينما. لكن العوامل المساعدة فى التعبير لم تمنعنا من إدراك التفوق الأدبي للنص، والتفريق بين رداءة أو جودة العرض المسرحي ككل وبين رداءة وجودة النص المبني عليه. الفصل لم يكن صعبًا وهذا ما ميّز كُتاب عن كُتاب. نحن نعلم أن تينيسي ويليامز كاتب مسرحي فذّ سواء قرأنا نصوصه مدونة أو شاهدناها فى عروض، كما نعلم أن كوينتن تارانتينو كاتب سينمائى فذّ.

وليس بغريب أن الأخير يصرح دائما فى لقائاته عن رفضه التعامل مع النص السينمائي باعتباره مسودة إرشادية وأنه حين يكتب فهو يقدم أفضل ما عنده كما لو أن السيناريو سيباع مثلما تباع الرويات فى حالة لم يتمكن من تنفيذه كفيلم، والحق أن نصوصه تُباع بالفعل فى متاجر الكتب مثلما تُباع النصوص السينمائية للأخوين كوين ووودى آلن وتشارلي كوفمان وإنغمار بيرغمان ونورا إيفرون وغيرهم، لكننا لاحظنا التفوق فى نصوص أفلام هؤلاء قبل الحاجة لقراءتها؛ ما يؤكد أن الفصل بين النص والعمل المكتمل لا يحتاج حتى لقراءة النص المُدوَن، حتى أن أغلب المهرجانات السينمائية والمسابقات تمنح جوائزها للنصوص الأفضل من خلال مشاهدة الفيلم لا قراءة النص.

وإن كانت هناك إمكانية لقراءة نص مسرحى فنفس الإمكانية مازالت متاحة مع النصوص السينمائية، فهى تُقرأ سواء بطبعات تجارية للجمهور وإن لم يحدث فتُقرأ بواسطة العاملين على إنتاج الفيلم والممثلين وغيرهم، ويجب أن تحتوي على عناصر تميز لإقناع هؤلاء بالاستثمار أو المشاركة فى تحويل النص إلى فيلم، ما يسقط الادعاء بأنها مجرد نصوص هلامية أو إرشادية، فهى بطبيعتها مكافئة للنص المسرحي لدرجة، ومن الازدواجية التعامل معهما باعتبار آخر. ولكن تبقى الإشكالية بأن إتاحة نصوص سينمائية للقراءة ليست عملية شائعة على المستوى الجماهيري، ما يأخذنا للرد الثانى وهو ضرورة إعادة تفسير التعريف الأدبي.

والتعريفات الأدبية تتنوع وتختلف بحسب اللغة والثقافة والزمن ومعايير الجمال وتطور مفاهيمنا عن اللغة، لذا يقول سايمون وديليس ريان فى دراسة لهما حول ماهية الأدب: "... فى الحقيقة، الشىء الوحيد المؤكد بشأن تعريف الأدب هو أن هذا التعريف سيتغير." لكن إن كنا نستهدف الرد على تيار محافظ فلنتناول أكثر تعريفات الأدب كلاسيكيةً وتجريدًا حيث تبدأ الموسوعة البريطانية فى تعريفها بأنه الأعمال المكتوبة، ويضيف تعريف قاموس أوكسفورد أنها الأعمال المكتوبة ذات التفوق والتميز الفني، وتذهب تعريفات أخرى لاعتباره كل نص مكتوب اختلف فى طبيعته عن الخطاب العادي المستخدم فى الحياة العملية اليومية وتضمّن قيمة فنية أو فكرية.

وكل ما سبق يمكن انطباقه على النص السينمائي، ولكن مع التوقف عند اللفظة الإنجليزية "writing"، والتى تتمتع بأبعاد أوسع من مرادفها العربى "كتابة"، فمثلا نجد الملحن الموسيقي فى الغرب يُطلق عليه "كاتب"، رغم أن تأليف لحن لا يحتاج للكتابة بمعناها التدويني ويحتمل الشفاهية والتواتر لأنه ليس الا نظم لنغمات الطبيعة. (قدمت فرقة "البيتلز" مجموعة من أعظم الألحان فى القرن العشرين مع اعتراف أفرادها بأنهم لا يستطيعون قراءة أو كتابة النوتة الموسيقية!) نخلص من ذلك بأن لفظة "كتابة" فى التعريفات تستهدف فعل التأليف بمعناه الواسع، سواء كان بالتدوين (أى نقش حروف على ورق)، أو بالطرق الأخرى للإبداع، وذلك كان الشق اللغوي فى الرد على الحجة التعريفية.

أما الشق الجوهري فيتمثل فى سؤال أين يتشكل النص؟ فى العقل أم على الورق؟ أو بكلمات أخرى: هل يكتب المبدع لأن لديه ما يقوله أم لأن فى يده قلمًا؟! ونحن حين نُعلي من شأن نص ما ونحتكر فيه صفة الأدب لمجرد أنه يُتداول فى شكل مدون فنحن بذلك ننحاز للإجابة الأخيرة، وهى إجابة تحط من شأن المبدع وتقترب به من وظيفة الآلة الكاتبة. النص الإبداعي إذن يجب أن ينبع ويتشكل من العقل، ما يعني أن الأدب يظل أدبًا بغض النظر عما إذا كان التدوين هو الوسيط التعبيري النهائي، أو لا.

وأستدل بمقال الأديب المصرى "محمد سلماوي" بجريدة الأهرام دفاعا عن فوز ديلان بالجائزة، حيث كتب: "الأدب فى عرف البعض هو ما يطبع فى الكتب فقط، بينما تراثنا العربي لا يعرف مثل هذا الفصل التعسفي، فالشعر الجاهلي لم يكن يطبع فى كتب وانما كان يلقى فى الأسواق، ولم يقلل من قيمة شعر أحمد رامى أنه كان يغنى أكثر مما يصدر فى دواوين."

حتى لو أقررنا بأن النصوص التى تردنا عبر وسائط أخرى غير التدوين تشوبها مؤثرات خارجية تحول دون إدراك منتهى الأصالة بالنص، فتلك المشكلة تواجه النصوص المدونة نفسها حين تمر ببوابة الترجمة. يقول "روجر سكروتون" فى كتابه عن الجمال: "إننا إذا ربطنا جمال رواية معينة بشكل وثيق بصوتها، فلنضع فى اعتبارنا جيدًا أن الرواية حين تترجم إلى لغة أخرى فهى تتحول إلى عمل فني مختلف عن الرواية نفسها بلغتها الأصلية"، لنتذكر أن لجنة نوبل قرأت أعمال ساراماجو وماركيز ونجيب محفوظ وغيرهم بنسخ مترجمة، وأن التجربة بالتأكيد ليست مطابقة لقراءة نفس الأعمال بلغاتها الأصلية، خاصة لو وافقنا على التفسيرات الكلاسيكية للأدب التى تعلي من شأن الجماليات النثرية بالتراكيب والأصوات المرتبطة باللغة، فهى جماليات غالبا ما تسقط بالترجمة.

لكن ما سبق لم يمنع القراء باختلاف ألسنتهم من الإعجاب بروايات الكُتاب السابقين؛ لذا يتابع سكروتون نظريته مُرجعا سبب هذا الإعجاب إلى العامل الحسي، فيعلق على ما قاله بأنه "يتضمن إغفالا للشىء الممتع فى فن الرواية وهو قصة الرواية والشكل الذى تتابع به أحداثها فى عالم خيالي والتأملات التى تصحب الحبكة وتثري دلالاتها... إن الترتيب الذى ينساب به السرد القصصي، وعنصر التشويق والإثارة، والتوازن بين السرد والحوار وتعليق الروائي، جميعها سمات حسية، انها تعتمد على التوقع ثم تحرير الأفكار، والانسياب المنظم للرواية فى إدراكنا." نخرج من حديث سكروتون بأن النص الإبداعي المتميز قادر على الولوج إلى حواسنا وفرض أصالته والسمو فوق الشوائب التى قد تُخلّفها الأنظمة أو الوسائط المتبعة فى إيصاله.

ويناقش "تيد نانيشيلي" فى كتابه "فلسفة النص السينمائي" الجماليات التى تعطي النص صفة الأدب. ففى أحد فصوله يتناول قول الناقد أدريان مارتن الذى يرفض أدبية النص السينمائى قائلا:" إنها هياكل عظمية بلا لحم، أشكال بلا حياة، حكايات بلا شعر أو استعارة"، ويستعين نانيشيلي بكتابات أستاذ الفلسفة الأدبية "بيتر لامارك" فى دحض ادعاء مارتن، فالأدوات الشعرية كالاستعارة ليست كافية أو أساسية للحكم بأدبية النص، وهذا التعميم قد يسقط الصفة الأدبية عن النصوص الروائية نفسها، ولن يبقي أدبًا سوى الشعر، ويختم نانيشيلي تعليقه ساخرا "لو أن الاستعارة هى ما تصنع الأدب، لكان علينا اعتبار بطاقات المعايدة أدبًا!"

وينحاز نانيشيلي لتعريف آخر للأدب صاغه الفيلسوف الأميركى "مونرو بيرسلي" فالعمل الأدبى بنظره "هو خطاب يكون فيه جزء مهم من المعنى ضمنيًا"، هذا التعريف يذهب بالاستعارة لمفهوم سيمنطيقي أكثر رحابة من اختزال المفهوم اللغوي لمارتين، ويشير بيرسلي نفسه أنه يمكن للنص السينمائي أن يكون أدبًا لو حقق شرط التضمين.

يقوم نانيشيلي بتطبيق نظرية بيرسلي على المشهد الافتتاحي لفيلم "المواطن كين"، حيث يقوم النص بوصف نثري لما نشاهده من ظلام غالب وشرفة مربعة صغيرة مضيئة وسط العتمة أشبه بختم ورقي أعلى قصر زاندو المهيب، وهناك أسلاك حديدية أمام الكاميرا تفصلها عن القصر وتسيطر على الشاشة. يذهب نانيشيلى أن بالنص تصوير بديعى يقوم بتضمين المعنى ودعم تيمات الفيلم الرئيسية، وهى وحدة وانعزال البطل "كين" كما يعبر عن سطوته.

وختامًا، فإن الأدوات البصرية والتقنية والأدائية المساعدة فى السينما تُكمل الفيلم لا النص، ولا تنتقص من أدبيته، فقط ترسم له مضمارا مختلفا للسير وتحديات من نوع آخر، ليس ثمة تفوق بل تنوع، مثلما يأخذ الشاعر القافية فى الحسبان بينما لا يتقيد بها الناثر، وهذا لا يُعلي من أدبية الأخير لأنه أكثر تحررا. ولو كان الإسهاب الروائى أكثر قيمة من التكثيف السينمائي بصفة دائمة، لما ختم الفيلسوف والعالم الفرنسي "باسكال" أحد خطاباته باعتذار على أنه لم يجد الوقت لكتابة خطاب أقصر!

لن تزداد السينما شرفًا بانتمائها للأدب أو العكس، فالسينما هى خاتم الفنون وجامعها ولم تحظ بلقب "الفن السابع" سوى لقدرتها السحرية على احتواء بقية الفنون، وذلك بدرجات ومقادير تختلف من فيلم لآخر، لذا فالسينما تستطيع أن تكون أى شىء. نعم، هناك الكثير من الأفلام التى لا تحوي بداخلها أى قيمة أدبية أو غير أدبية، ولكن حال الروايات والأشعار ليس أفضل كثيرًا. المهم أن الجيد فى السينما لا يقل عن الجيد فى الرواية والشعر، السينما تعمقت فى كل المواضيع التى تؤرق الإنسان، ناقشت الحب والفلسفة والعدل والوجود والموت والحرية والحق والجمال. ربما ما قاله الكاتب الأميركى "تشارلز ديمر" هو الخلاصة: "ينبغى اعتبار النص السينمائي أدبًا .. فى حال استحق أن يكون."

0 التعليقات:

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
back to top