«موستانج» .. إعادة تعريف السينما النسوية
كتب Amgad Gamal |  نشر في : 6:26 م
0
يصف المُحرر بموقع "ترايبيكا"
السينمائى، الفيلم التركى الفرنسى الذى رُشح للأوسكار "موستانج Mustang
2015" بأنه أفضل فيلم نسوى خلال العام السابق، وهو وصف جعلنى
أتوقف عنده بعد مشاهدتى للفيلم، ليس اعتراضا أو قبولا بل تأملا. فهل اختزال تلك
التجربة السينمائية، التى لا شك فى كونها خلابة، بوصف مطاطى وجدلى مثل
"نسوية" يُعَد أمرًا مُنصفًا أو دقيقًا؟
يرجع الباحثون إدراك الفكرة
النسوية على الصعيد السينمائى إلى النقاد وليس الصناع، وتحديدا منذ كتاب Popcorn
Venus للناقدة "مارجورى روزن"، حيث تساءلت روزن: "لماذا بطلات الأفلام يعتبرن
كسب حب شخص آخر أهم من كل شىء؟ لماذا لا يقدرن أنفسهن؟ أعمالهن؟ حياتهن
باستقلالية؟ أو تكريسها لأى شىء آخر غير قلوبهن؟ .. لقد تعمدت هوليوود سحق حق
الإناث فى تقرير مصيرهن". المقولة مستخلصة من كتاب
"أفلام مشاهدة بدقة".
ثم جاء المُنظر والناقد الفرنسى
"كريستيان ميتز" ليبدع نظريته حول متعة السينما الأولى التى هى "حب
النظر" (Scopophilia)، فهى السمة التى تميز فن السينما عن غيره من الفنون، حيث تعطى المتفرج
رفاهية النظر إلى الآخرين وحيواتهم، دون أن يدركوا أو يتدخلوا لمنع استباحة
خصوصيتهم لأنهم فى بُعد فيزيائى آخر. ومن ثم فإن هذه السمة ستقود إلى سمة آخرى وهى
"التنصت الجنسى".
ثم تطورت تلك النظرية على يد ناقدة
نسوية أخرى هى "لورا مولفى" وذلك من خلال مقالتها التاريخية بعنوان
"اللذة البصرية والسرد السينمائى". والتى أفادت بأن كل الأفلام الشهيرة افترضت أن جمهورها من الذكور فقط، ومن ثم أخذت تداعب هذا الجمهور عن طريق إظهار
النساء فى الأفلام بتشيىء objectification وتجريد من
القوة ولأهداف ايروسية بحتة.
وقالت مولفى جملتها الصادمة: "الرجال من أجل الأفعال
والنساء للنظر إليهن". واستخدمت مولفى أدوات التحليل النفسى لتثبت نظريتها
بإرجاعها إلى عقدة الخصى عند الرجال castration anxiety، والتى ترجع فى الأساس لسيجموند فرويد، فجسد الأنثى الخالى من
قضيب يذكر الرجال دائما بمصدر تفوقهم، لذا فإن طريقة عرض أجساد النساء على الشاشة
بالرؤية الذكورية تعطى لهم لذة موزعة على مستويين: الأول هو نفسي متعلق بإحساس
التفوق والسيطرة، والثانى متعلق بالإثارة الجنسية (الإيروسية).
وبرغم الهجوم الذى لاقته تلك
المقالة إللا أنها أحدثت انتشارا وتأثيرا كبيرا فى الأوساط الفنية والنقدية، وبحسب
"مارلين فيب" فإن أهمية المقالة تكمن فى أن مولفى قد اختتمتها بتوصيات
لصانعات الأفلام لإيجاد أساليب جديدة تحرر السينما من سطوة النظرة الذكورية تجاه
الأنثى.
وبالفعل أخذت تلك الأفكار فى
الانتشار والتطور تدريجيا إلى أن وصلت لذروتها مع موجة سينمائية ظهرت مؤخرا، وتحديدا
بمدينة نيويورك، تولى تلك الموجة إخلاصا كبيرا لتلك الأفكار، ومن رموزها أسماء
بدأت تلمع على الساحة مثل "لينا دونهام" و "إمى شومر"
و"جريتا جيرويج".
أبرز الخصائص المميزة لتلك الموجة
هى: الإعتزاز بعرض جسد الأنثى البطلة مهما كان عاديا أو لا يتوافق مع مقاييس
الجمال عند الذكور، وشحن الحوارات بأحاديث عن الصفات البيولوجية النسائية المنفرة مثل
الدورة الشهرية أو شعر العانة والإبط أو الأمراض الجنسية والثديية والإجهاض، وتهميش
أهمية العلاقات العاطفية ونقضها أحيانا، والحديث عن تفاصيل مقززة وخرقاء للأنثى،
بما يتنافى مع التقاليد الإيروتيكية، حيث أصبحت الأنثى فى هذه الأعمال هى المركز
لما يدور، لا مجرد صورة ذهنية فى عقل الذكر.
يأتى فيلم موستانج ليضيف سطرا
جديدا بتلك القضية وبذلك النوع من السينما. الفيلم الذى يتخذ من قرية تركية نائية
موقعا لأحداثه، ومن خمس فتيات فى مراحل سنية متنوعة بطلات لقصته، تبدأ الأحداث بانتهاء
أحد الفصول الدراسية فى مدرسة القرية، حيث تودع "لالى" (الفتاة الأصغر وراوية
الأحداث) معلمتها فى المدرسة بالدموع، المعلمة عائدة إلى مدينتها "اسطنبول"،
ونفهم بعدها أنها ليست فقط معلمتها بل مثلها الأعلى وملهمة نزعاتها التحررية
والعاطفية، وكأن رحيلها كان بمثابة إشارة لانطفاء النور والحياة عن القرية.
تتوجه بعدها الفتيات الخمس للاحتفال
بإنهاء الدراسة باللعب مع بعض صبيان القرية، حيث يحمل الفتيان الفتيات فوق
أكتافهم. وترى هذا المشهد إحدى جارات الفتيات فتبلغ جدتهن ويتناقل الخبر حتى يصل للعم،
ومن هنا ينقلب كل شىء، فالفتيات قد ارتكبن خطيئة عظمى بمقياس ذلك المجتمع الصغير،
وما كان فى نظرهن مجرد لعبة بريئة أو حتى محاولة متواضعة لاستكشاف الجنس الآخر هو
فى حقيقته وصمة عار ستطارد العائلة التى أشعرتها هذه الحادثة بالتهديد فقامت
بتحويل المنزل إلى ما يشبه الثكنات العسكرية تمهيدا لوأد الحياة فى نفوس الفتيات
الخمس، ثم منعهن من إكمال تعليمهن، والاكتفاء بتأهيلهن ليكن زوجات.
تنوعت العناصر النسوية بالفيلم بين
مباشرة ورمزية. الأخيرة تبدأ بمشهد تتسلل فيه الفتيات إلى أحد حقول الفاكهة الخاصة
بعد انتهائهن من اللعب، ثم يقمن بالتقاط قليل من ثمرات الفاكهة من الحقل قبل أن يضبطهن
مالكه ويعنفهن، وهنا كانت البداية لاصطدام الفتيات بحائط الاضطهاد الذكورى على مستوى
مباشر.
أما على المستوى الرمزى فهى بداية
بليغة للغاية، أن تأتى بتعنيفهن على أكل ثمرة الفاكهة، وهو ما يحيلنا إلى قصة
الخطيئة الأولى فى الديانات الإبراهيمية، هذه القصة التى مازالت تُستغل من البعض كمرجعية للحط من الأنثى
وكأداة للعنة الأبدية ولتحميلها كل خطايا الكون، ما يعطى الذكر زريعة للتسلط عليها. وهنا
فصانعة الفيلم "دينيس إرجوفان" قد بَرَعَت فى استهلال فيلمها بنبذة ذكية
عن المرجعية والعالم الذى تدور به قصة الفيلم، وعن منزلة الأنثى به.
نلاحظ أيضا أن الحجة التى تتردد
على لسان العم دائما فى قمعه للفتيات هى نظرة الناس له، والناس فى عالمه لم يخرجوا
عن مجموعة الذكور التى تجتمع معه لمشاهدة مباراة كرة قدم، هؤلاء من يهاب العم
نميمتهم، ما يأخذنا إلى أن ذكورا آخرين أبعد فى صلة القرابة يسيّرون العم، بشكل
غير مباشر، ليسيّر هو بدوره الفتيات. ما يؤكد نفس المفهوم عن شمولية وجذرية
الوصاية الذكورية. وهذا المعنى متعارف عليه فى الحركات النسوية الحديثة بكلمة
"بطريركية" أو أبوية ذكورية.
الآن، كيف اختلف هذا الفيلم فى
رؤيته النسوية؟
العامل الأول للاختلاف كان التعاطى
مع الأنثى ككائن جميل وجذاب على أن تلك نقطة قوة وتفوق يجب رسمها وإضفائها بمزيد
من الجمال، وليس وصمة عار يجب دحرها أسفل شعارات التسليع والتشيىء. فمن يشاهد
الفيلم سيدرك إلى أى مدى استغلت "إرجوفان" عنصر الأنوثة بفتياتها كسمة
جمالية فى حد ذاتها، وخاصة تلك اللقطات التى تجمعهن فى غرفة المنزل الضيقة فتتشابك
أجسادهن بانسيابية وحميمية، وتداعبهم خيوط رفيعة من ضوء الشمس عبر النافذة، ليس ضوءا
كاملا للتدليل على أن حريتهن مازالت مرهونة، وأنوثتهن مازالت مقموعة، ولكن هناك
شعاع أمل ورغبة حثيثة فى الانطلاق والتعبير عن الجسد، ولا أدل على هذا المعنى من
تلك اللقطة التى تخرق فيها إحدى الفتيات عبائة أختها من أسفل لتصير كاشفة مثل
فساتين السهرة الفاتنة.
وقد أكدت "إرجوفان" بنفسها
ذلك التوجه فى أحد حواراتها مع مجلة IndieWire، حيث وصفت تلك اللقطة الشهيرة التى تتعانق بها أيدى
الفتيات الخمس بأنها تشكّل "مارد الأنوثة" femininity monster، ما يؤكد ما قلناه عن
اعتزازها بعنصر الجمال الأنثوى لدرجة أوصلتها لتضخيمه من مرة إلى خمس مرات، ضاربة
بعرض الحائط تنظيرات ومدارس السينما النسوية التى ترفض هذا الأمر.
أما العامل الثانى فى الاختلاف،
فكان التسامح مع مبدأ الجنس والعلاقات بين النوعين (ذكر وأنثى). صحيح أن الفيلم
قدّم مؤسسة الزواج كشبح أو قاتل متسلسل يسقط الواحدة منهن تلو الأخرى، وليس أكثر
نقدا واستخفافا بمؤسسة الزواج بنظامها التقليدى من الجملة التى قالتها لالى: "لقد
تحول منزلنا إلى مصنع زوجات".
لكن هذا لم يكن النوع الوحيد من
العلاقات الذى قدمه الفيلم، فكان هناك نوع آخر غير منقوض وهو علاقات الحب خارج
الزواج، فالأخت الكبرى تهرب من شرفة الغرفة لقضاء بعض الوقت مع حبيبها، والأخت
المنتحرة تختلس ممارسة الحب مع صديقها بسيارة عمها. من هنا نتأكد أننا لسنا أمام مرجعية
نسوية من التى تعادى الحميمية الإنسانية وتعتبرها إغتصاب مقنع، وتمجد البتولة
والوحدة، بل هى مرجعية تنظر للجنس والعلاقات بصورة مختلفة، فهى معها طالما كانت
تحفظ للطرفين ذاتيتهما وتجعلهما شركاء، لا فاعل ومفعول، لا مُستهدف وهدف، لا سيد
وعبد. حتى علاقة مُعلمة لالى (رمز التحرر)، بدت فى نهاية الفيلم وكأنها
زواج، لكنه لم يبدو زواجا على طريقة أهل القرية.
الاستنتاج الذى أذهب إليه من
العاملين السابقين هو أن "إرجوفان" لم تتمرد بعقلها الواعى على القيم
النسوية المشهورة، بل جاء ذلك كمصادفة إيجابية نتيجة لاختلاف البيئة الحاضنة لمصدر
الحركة النسوية وهى الحضارة الغربية من ناحية، وبين بيئة هذا الفيلم الشرقية من
ناحية أخرى. فالأولى لم تكن تعانى من مشاكل الثانية، وما هو مرفوض فى الأولى من
منطلقات تقدمية مرفوض فى الثانية من منطلقات رجعية. فالحضارة الغربية لا تعانى
عقدة التعبير عن الجسد من الأساس، والجدال الحاصل هو من منطلق تقدمى يخص الفروق
بين التعبير والتشيىء بحثا فى النهاية عن رفعة الإنسان وتقديره كفرد، بينما
الثقافة الشرقية فهى تعادى الجسد من الأساس، والجدال الحاصل هو من منطلق رجعى يخص
مفاهيم كالعار والشرف وتملك الأنثى لإعلاء سطوة المجتمع على الفرد.
وهنا فاختلاف المرجعيات والتوجهات
تسبب فى نوع من التلاقح الثقافى أنتج فى النهاية توفيقا بديعا بينهما، وكشف عن ذلك
الجسر المتجاهل بين النسوية والأنوثة. المفارقة هى أن إرجوفان نفسها تجمع بين
الهويتين الشرقية والغربية بحملها للجنسيتين التركية والفرنسية معا.
نذهب لنقطة أخرى وهى التشابه
الملحوظ بين هذا الفيلم وفيلم صوفيا كوبولا الشهير "انتحار العذراوات"،
بغض النظر عن الاختلاف بين الشرقى والغربى، الإسلامى والكاثوليكى، فالفيلمان يجمعهما
نفس التفاصيل والبناء، لكن ما يتميز به موستانج هو رفضه للأمر الواقع، وخلقه لحالة
التمرد فى النهاية، صحيح أنها جاءت حالمة وغير واقعية، أو كما تشبهها إرجوفان فى أحد حواراتها بالقصة الخيالية fairy tale، ولكن هذا مبرر لأن الأحداث
أساسا تروى من منظور طفلة، بجانب أن الحلول دائما تبدأ بحلم.
الأهم فى عامل التمرد هذا، والذى
يمكن إضافته كعامل ثالث للإختلاف، هو أن العدو هنا ليس الذكر بل هى القيم البالية
التى يرعاها الذكر وتتواطأ عليها النساء أحيانا (الجدة ونساء القرية الكبيرات). بينما
يظهر الفيلم ذكرا بشخصية شديدة الإيجابية وهو "ياسين" الذى يساعد لالى
على الهروب، وهذا يتناقض مع مبادىء كثير من الحركات النسوية التى ترفض تدخل الذكر
كحليف فى القضية النسوية.
التسميات:
شارك الموضوع
0 التعليقات:
إرسال تعليق