جميع المواضيع


نشر هذا المقال ورقياً بعدد شهر نوفمبر من مجلة أبيض وأسود

"ماذا بعد؟" .. السؤال الذى يؤرق منام كل مبدع بعد أى خطوة مضيئة فى مشواره، إنه مجهول المعادلة الأصعب على أى فنان حلها. ماذا يقدم بعد تحفته الفنية؟ كيف ينجو من حصار نهم توقعات المحبين وتحفز سيوف الكارهين فى ظل واقع تنافسى طاحن يتطلب ما هو أكثر من النجاة؟
باولو سورنتينو .. الإسم السينمائى الإيطالى الأكثر صعوداً ولمعاناً فى السنوات الأخيرة يواجه هذا التحدى بفيلمه الأحدث "شباب" بعد النجاح الملحوظ الذى حققه فيلمه السابق "الجمال العظيم" قبل عامين، وخاصة بحصول الأخير على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبى وأيضا كونه من أكثر الأفلام التى نالت إهتمام النقاد وعشاق السينما فى سنة عرضه. هذا لا يلغى وجود نوع من الإنقسام فى الرأى حول "الجمال العظيم"، ويتجلى هذا الإنقسام برمزية فى حدث خروج الفيلم خالى الوفاض من المسابقة الرسمية لمهرجان كان فى نفس العام، وهى مفارقة تنحاز فيها الأوسكار -على غير العادة- للفيلم المحسوب على السينما الفنية، بينما تتخلى السعفة وباقى جوائز كان عنه رغم تحيزها التاريخى لما هو فنى وتجريبى.
يقول جان كوكتو "الشِعر ضرورة .. وليتنى أعرف لماذا." وتأتى هذه المقولة كتفسير على ظاهرة إنقسامات الأراء حول تلك النوعية من الأفلام أيضاً. فإنها أكثر ما يخضع للذوق الشخصى وللحالة المزاجية، وهو ما يجعلنا فى كثير من الأحيان عاجزين عن تقييمها بشكل موضوعى، لأننا وكما قال "كوكتو" لا نعرف لماذا، وربما لو علمنا لضاع كل السحر.
أميل لتصنيف الفن الذى يقدمه سورنتينو كنوع متطور من السينما الشعرية، وهى شعرية تعترف وتطوّع مستجدات الثقافة الشعبية فى داخلها، فتسمع المقطوعات الكلاسيكية جنباً إلى جنب مع موسيقى البوب الراقصة، وترى الطبيعة الخالصة جنباً إلى جنب مع المعمار والديكور الحداثى، وتجد الحوارات العفوية تتحول إلى نثريات وأبيات شعر مصقلة بخلاصة الحكمة ومحفزات التأمل، بل كان من الممكن سماعها فى أحد أفلام أباطرة السينما الشعرية كـ"أندريه تاركوفسكى" أو "تيرينس ماليك" ولكنك كنت لتسمعها فى هيئة تعليق صوتى مبتور العلاقة مع الحدث الروائى.







هذه المرة يرتكز قوام فيلم "شباب" حول ثلاث شخصيات رئيسية تقضى إجازة فى أحد المنتجعات السويسرية الفخمة، وهم بترتيب الأهمية، الموسيقار وقائد الأوركيسترا "فريد بالينجر" الذى أدى دوره الممثل"مايكل كين"، ذلك العجوز الذى اعتزل الموسيقى ويخفى بين تجاعيد وجهه وترهلات جسده جرحاً نفسياً هائلاً يتكشف تدريجياً للمتفرج على مدار زمن الفيلم. والشخصية الثانية هى "ميك بويل" التى أداها الممثل "هارفى كيتيل"، وهو صانع الأفلام الذى شاخ بعد اكتشافه أنه لم يقدم بعد الفيلم الذى يحقق له ذاته كمبدع. والشخصية الثالثة هى شخصية "جيمى" أداها "بول دانو" وهو عن ذلك الممثل الذى يتذكره الجميع بدور تافه فى أحد أفلام الخيال العلمى الجماهيرية مع تناسى باقى الأدوار القوية التى قدمها، لذا فهو يعانى من إحباط كبير أشبه بالإحباط الذى عانته شخصية "مايكل كيتون" بفيلم "بيردمان".

نلاحظ أن الثلاث شخصيات الرئيسية تجمعها مهنة الفن، وأظن ذلك سبب الربط الدائم بين سينما سورنتينو وسينما فيدريكو فيلينى، وبغض النظر عن الهوية الإيطالية المشتركة ففى رأيى أنه ربط غير دقيق لو تحدثنا من الناحية الأسلوبية. ولكنه يجوز لو تحدثنا من ناحية التيمات والمواضيع التى قدمها فيلينى فى فيلميه الأشهر على الأقل "8 ونصف" و "لا دولشى فيتا"، والتى تعرضت هى الأخرى لصراع الفنان/الوسط الفنى مع العالم. أيضا يختلف سورنتينو عن فيلينى فى عرضه للطبقة الأريستقراطية من منظور به وفاء وكأنه واحد من تلك الطبقة، بينما عرضها فيلينى من منظور وافد أو متنصت على تلك الطبقة.
يبدأ فيلم "شباب" بمشهد تقوم فيه مطربة شابة بأداء وصلة غنائية داخل المنتجع، والطريقة التى اختارها سورنتينو لعرض ذلك المشهد الإفتتاحى تتماهى مع همّ رئيسى لشخصيات الفيلم، فالكاميرا تدور بثبات مع دوران المسرح الذى تعتليه المطربة، وهو نفس الدوران الذى تواجهه الشخصيات على مدار زمن الفيلم، الدوران فى حلقة مفرغة من المعاناة. ويتم التعبير بصرياً عن ذلك بشكل أكثر تجلى فى اللقطات التى يصطف بها المسنون عرايا الجسد فى صفوف دائرية وهم فى طريقهم لأخذ دورهم بجلسات الساونا والعلاج الطبيعى بالمنتجع. نتوقف أيضاً أمام مشهد حوارى لفريد بالينجر أثناء احدى جلسات العلاج الطبيعى حين يطلب منه الطبيب تحمل وجع العلاج حيث يتبعه راحة، فيجيبه بالينجر يائساً: "وماذا بعد الراحة؟ وجع آخر".
 
هذا الكم من المعاناة فى حياة هؤلاء يتنقل بهم بين البؤس واليأس تارة، وتارة أخرى نحو البحث عن معنى من وراءه أو مكافأة نظير تحمله. ومن هنا يأتى دور الفن فى حياتهم. فإذا كانت أهداف الفنان الظاهرية هى التواصل والتقدير اللحظى والإحساس بالتأثير وتغيير العالم أو حتى مجرد تفريغ شحنات عاطفية يتعبه بقائها، فإن الهدف الكامن والأقوى هو الخلود، يريد كل فنان أن يترك وراءه الإرث الذى يجعله باقياً مهما تلاشى جسده عن الدنيا، بغض النظر عن كون هذا الخلود وهمى، ففى النهاية لن ينتفع أى فنان من بقاء فنه إذا لم يبقى هو بجسده ووعيه للمس هذا البقاء، ولكنها كما قلت مجرد قشة يتعلق بها إنسان لديه ما يكفى من الألم للقبول بأى تعويض وإن كان محض وهم.
نرصد ما سبق بشكل أكثر وضوحاً فى شخصية ميك، صانع الأفلام الذى قرر إنهاء تاريخه الفنى بكتابة سيناريو يصفه بغرور بأنه إنجيله الخاص أو وصيته الأخيرة للعالم، فهو السيناريو الذى يريد به تحقيق أحلامه الضائعة عبر سنوات من تقديم أفلام اكتشف فجأة كونها هراء، ما يجعله يرتعد، فنهايته تقترب ويظن أنه لم يترك الشىء الذى يحفظ تاريخه. يتجسد هذا الارتعاد أيضاً فى ذلك المشهد الذى يسأله أحد رفاقه عن نهاية الفيلم الذى يكتبه فيصمت قليلاً فى توتر ثم يجيب "سنأتى بواحدة آجلا أو عاجلا" ثم يقوم بعدها بفتح زجاجة الشمانيا بحركة عصبية. فمفهوم النهاية عموما أصبح هو مصدر الرعب الأكبر له، إنه السبب الرئيسى الذى يجعله يكتب ذلك الإنجيل أو الوصية المزعومة، كى يهرب من نهايته.
كما نرصد نفس الهم عند شخصية جيمى، حين يدخل فى ذلك الحوار اليائس مع بالينجر عن خطأ الإنجراف فى حياة الطيش الخفيفة والتسامح مع النزوات، حيث أنه يعانى كل ما يعانيه الآن من نزوة فنية قدم فيها شخصية تافهة التصقت به فوصمته ثم قامت بمحو باقى تاريخه الفنى الأكثر جدية. لو دققنا فى هذا الهم لوجدناه يعود بنا لمعضلة الخلود نفسها، بماذا سيتذكرك الناس حين تنتهى، بالإضافة لمعضلة أخرى وهى الجحود، عن طريق اختزال سيرة إنسان فى نزوة.
 
وبالرغم من إجابة بالينجر التى اتسمت بالتبرير والدفاع عن الطيش إلا أننا نكتشف بمرور الأحداث أنها إجابة مزيفة يتخفى بها من جرحه الشخصى، فبالينجر يعانى هو الآخر من نفس معضلة الجحود مع إبنته، يظهر ذلك فى المشهد الحوارى بينه وبين ميك حين يخبره بحزنه عندما يجد إبنته قد نست أو لا تعلم شىء عن حجم المساعى والتضحيات التى بذلها من أجل إسعادها منذ كانت طفلة، كل ذلك بسبب نزوة أو أكثر قام فيها بخيانة أمها، وأنه خائف إذا مات الآن أللا تتذكره بما هو جيد. ومن هنا وهناك تتعقد معضلة الخلود بمعضلة أخرى وهى الجحود، أو لنسميها الذاكرة، فحتى إن كنت تركت ما هو قيّم لإبقائك خالداً، فإن الذاكرة الإنسانية - أداة الخلود الوهمى - ليست دوماً عادلة.
نتوقف قليلاً لنتذكر حفل الأوسكار منذ عامين والذى تسلم فيه سورنتينو جائزته، ونلاحظ أنه فى خطابه قد قدّم التحية لشخص من الذين ألهموه يدعى "دييجو أرماندو مارادونا". رغم عظمة هذا الإسم إللا أنى أشك بقوة اذا كان أغلب من بالقاعة يومها يعرفوا عمن يتحدث سورنتينو، فالأميريكيون لا يهتمون بكرة القدم، وحتى معظم مقالات النقاد الأميريكيين لم تصل إلى أن سورنتينو يقدم شخصية "مارادونا" بشكل متنكر فى فيلمه "شباب".

تلك مفارقة تتناغم مع فكرة الذاكرة غير العادلة التى طرحناها، كما أن مارادونا نفسه بسيرته الدراماتيكية هو أحد الرموز الساطعة للتدليل على مفهوم العلاقة الشائكة بين العظمة والنزوات وكيف تلغى إحداهما الأخرى، وهو من صميم ما يطرحه الفيلم. كما أن ذلك ظهر فى أحد مشاهد الفيلم بحمام السباحة حين يتدخل هو فى مناقشة بين بالينجر والطفل العازف للكمان ويخبرهم بأنه أيضاً أيسر مثل الطفل، فيرد جيمى "الجميع يعلم أنك أيسر". لكن ما قاله جيمى  ليس مؤكداً، فربما هناك من لا يعلم، وهذا اللا يقين هو السبب الذى دفع مارادونا للتدخل فى الحوار من الأساس وتذكيرهم بأنه أيضاً "أيسر" وكأنه فى الحقيقة يستجدى منهم الخلود بطلب أن تظل ذكراه معروفة .. "أنا أشول" .. "تذكرونى".
هذه الرغبة اليائسة فى الخلود عبر عنها سورنتينو أيضاً بشكل بصرى رائع فى مشاهد خلوة الشخصيات مع أنفسها. مارادونا ينطىء كرة التنس فى الهواء بحماس وغيظ اعتراضاً على سنوات المجد التى لا تريد العودة، وبالينجر يقوم بقيادة أوركيسترا أصوات الطبيعة والمواشى والطيور، كما يناجى ميك الشخصيات النسائية بأفلامه والتى اجتمعت كلها أمام عينيه فى الغابة. كل منهم يقلب فى دفاتره القديمة ويحزن. لعل محاولة بالينجر كانت الأنجح لأنها تهدف للتوحد مع الطبيعة التى لا تفنى وإن فنى الإنسان، وكأن بالينجر قد قبِل بالأمر الواقع ولا يمانع فى أن يخلد حتى ولو عن طريق تحلل جسده وتحوله لعناصر أخرى فى الطبيعة.
المعاناة فى الفيلم لم تقتصر على المسنين، فحتى الشخصيات الشابة خائفة، ويظهر ذلك فى أحد المشاهد البديعة التى تنتقل فيها الكاميرا بسلاسة بين أوجه صناع الفيلم الذى يصنعه ميك وهم نائمون بجوار بعضهم البعض وفى حالة عصف ذهنى وروحى بحثاً عن نهاية للفيلم، ولكن نبرة أصواتهم احتوت على ما يكفى من يأس وكآبة لنفهم أن الأمر لا يقتصر على نهاية الفيلم وحده بل على نهايتهم هم أيضاً، هل ستكون درامية أم واقعية أم رومانسية؟ هم عاجزين عن إيجاد نهاية لأنهم فى أعماقهم يعتقدون أنه لا يجب أن تكون هناك نهاية من الأساس!
وبمثل حادثة التواصل الأجيالى التى تمت بين مارادونا والطفل عازف الكمان والتى بدت وكأن الأول يريد من الأخير أن يتذكره فيخلده، فإن الأمر يتكرر أيضاً مع بالينجر وعاملة التدليك المراهقة، التى فى نهاية الفيلم وجدناها تقلع عن الرقص على إيقاعات موسيقى البوب وتؤثر بدلا منها التمايل على أنغام المقطوعة الكلاسيكية التى ألفها بالينجر، وكأن الأخير قد نجح فى تلك اللقطة بالفوز ببعض الخلود.
رغم أن "شباب" لن يحصد ربع عدد الجوائز التى حصدها "الجمال العظيم"، إلا أنى أراه الفيلم الأفضل، حيث حافظ سورنتينو على نفس قدر الجماليات بفيلمه السابق ولكنه تدارك أيضاً عيوبه الكبرى والتى تلخصت فى تهميش العاطفة والمغزى. هذه المرة تتضح صراعات وهموم الشخصيات من اللحظة الأولى، هذه المرة أنت قادر على الشعور بخوائهم النفسى قبل وهنهم الجسدى. وحتى اللحظات الشعرية التأملية كانت أكثر ارتباطاً بالدراما وأعلى فى جرعة الشحن العاطفى، وأقل فى الإدعاء. وبرغم حصة الكآبة إلا إنه احتوى على لحظات شديدة الظرف والسخرية تجعله واحداً من أرقى أفلام الكوميديا السوداء فى الفترة الأخيرة.

Youth .. الخلود، الجحود، والفرص الضائعة

كتب Amgad Gamal  |  نشر في :  7:45 م 0 تعليقات


نشر هذا المقال ورقياً بعدد شهر نوفمبر من مجلة أبيض وأسود

"ماذا بعد؟" .. السؤال الذى يؤرق منام كل مبدع بعد أى خطوة مضيئة فى مشواره، إنه مجهول المعادلة الأصعب على أى فنان حلها. ماذا يقدم بعد تحفته الفنية؟ كيف ينجو من حصار نهم توقعات المحبين وتحفز سيوف الكارهين فى ظل واقع تنافسى طاحن يتطلب ما هو أكثر من النجاة؟
باولو سورنتينو .. الإسم السينمائى الإيطالى الأكثر صعوداً ولمعاناً فى السنوات الأخيرة يواجه هذا التحدى بفيلمه الأحدث "شباب" بعد النجاح الملحوظ الذى حققه فيلمه السابق "الجمال العظيم" قبل عامين، وخاصة بحصول الأخير على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبى وأيضا كونه من أكثر الأفلام التى نالت إهتمام النقاد وعشاق السينما فى سنة عرضه. هذا لا يلغى وجود نوع من الإنقسام فى الرأى حول "الجمال العظيم"، ويتجلى هذا الإنقسام برمزية فى حدث خروج الفيلم خالى الوفاض من المسابقة الرسمية لمهرجان كان فى نفس العام، وهى مفارقة تنحاز فيها الأوسكار -على غير العادة- للفيلم المحسوب على السينما الفنية، بينما تتخلى السعفة وباقى جوائز كان عنه رغم تحيزها التاريخى لما هو فنى وتجريبى.
يقول جان كوكتو "الشِعر ضرورة .. وليتنى أعرف لماذا." وتأتى هذه المقولة كتفسير على ظاهرة إنقسامات الأراء حول تلك النوعية من الأفلام أيضاً. فإنها أكثر ما يخضع للذوق الشخصى وللحالة المزاجية، وهو ما يجعلنا فى كثير من الأحيان عاجزين عن تقييمها بشكل موضوعى، لأننا وكما قال "كوكتو" لا نعرف لماذا، وربما لو علمنا لضاع كل السحر.
أميل لتصنيف الفن الذى يقدمه سورنتينو كنوع متطور من السينما الشعرية، وهى شعرية تعترف وتطوّع مستجدات الثقافة الشعبية فى داخلها، فتسمع المقطوعات الكلاسيكية جنباً إلى جنب مع موسيقى البوب الراقصة، وترى الطبيعة الخالصة جنباً إلى جنب مع المعمار والديكور الحداثى، وتجد الحوارات العفوية تتحول إلى نثريات وأبيات شعر مصقلة بخلاصة الحكمة ومحفزات التأمل، بل كان من الممكن سماعها فى أحد أفلام أباطرة السينما الشعرية كـ"أندريه تاركوفسكى" أو "تيرينس ماليك" ولكنك كنت لتسمعها فى هيئة تعليق صوتى مبتور العلاقة مع الحدث الروائى.







هذه المرة يرتكز قوام فيلم "شباب" حول ثلاث شخصيات رئيسية تقضى إجازة فى أحد المنتجعات السويسرية الفخمة، وهم بترتيب الأهمية، الموسيقار وقائد الأوركيسترا "فريد بالينجر" الذى أدى دوره الممثل"مايكل كين"، ذلك العجوز الذى اعتزل الموسيقى ويخفى بين تجاعيد وجهه وترهلات جسده جرحاً نفسياً هائلاً يتكشف تدريجياً للمتفرج على مدار زمن الفيلم. والشخصية الثانية هى "ميك بويل" التى أداها الممثل "هارفى كيتيل"، وهو صانع الأفلام الذى شاخ بعد اكتشافه أنه لم يقدم بعد الفيلم الذى يحقق له ذاته كمبدع. والشخصية الثالثة هى شخصية "جيمى" أداها "بول دانو" وهو عن ذلك الممثل الذى يتذكره الجميع بدور تافه فى أحد أفلام الخيال العلمى الجماهيرية مع تناسى باقى الأدوار القوية التى قدمها، لذا فهو يعانى من إحباط كبير أشبه بالإحباط الذى عانته شخصية "مايكل كيتون" بفيلم "بيردمان".

نلاحظ أن الثلاث شخصيات الرئيسية تجمعها مهنة الفن، وأظن ذلك سبب الربط الدائم بين سينما سورنتينو وسينما فيدريكو فيلينى، وبغض النظر عن الهوية الإيطالية المشتركة ففى رأيى أنه ربط غير دقيق لو تحدثنا من الناحية الأسلوبية. ولكنه يجوز لو تحدثنا من ناحية التيمات والمواضيع التى قدمها فيلينى فى فيلميه الأشهر على الأقل "8 ونصف" و "لا دولشى فيتا"، والتى تعرضت هى الأخرى لصراع الفنان/الوسط الفنى مع العالم. أيضا يختلف سورنتينو عن فيلينى فى عرضه للطبقة الأريستقراطية من منظور به وفاء وكأنه واحد من تلك الطبقة، بينما عرضها فيلينى من منظور وافد أو متنصت على تلك الطبقة.
يبدأ فيلم "شباب" بمشهد تقوم فيه مطربة شابة بأداء وصلة غنائية داخل المنتجع، والطريقة التى اختارها سورنتينو لعرض ذلك المشهد الإفتتاحى تتماهى مع همّ رئيسى لشخصيات الفيلم، فالكاميرا تدور بثبات مع دوران المسرح الذى تعتليه المطربة، وهو نفس الدوران الذى تواجهه الشخصيات على مدار زمن الفيلم، الدوران فى حلقة مفرغة من المعاناة. ويتم التعبير بصرياً عن ذلك بشكل أكثر تجلى فى اللقطات التى يصطف بها المسنون عرايا الجسد فى صفوف دائرية وهم فى طريقهم لأخذ دورهم بجلسات الساونا والعلاج الطبيعى بالمنتجع. نتوقف أيضاً أمام مشهد حوارى لفريد بالينجر أثناء احدى جلسات العلاج الطبيعى حين يطلب منه الطبيب تحمل وجع العلاج حيث يتبعه راحة، فيجيبه بالينجر يائساً: "وماذا بعد الراحة؟ وجع آخر".
 
هذا الكم من المعاناة فى حياة هؤلاء يتنقل بهم بين البؤس واليأس تارة، وتارة أخرى نحو البحث عن معنى من وراءه أو مكافأة نظير تحمله. ومن هنا يأتى دور الفن فى حياتهم. فإذا كانت أهداف الفنان الظاهرية هى التواصل والتقدير اللحظى والإحساس بالتأثير وتغيير العالم أو حتى مجرد تفريغ شحنات عاطفية يتعبه بقائها، فإن الهدف الكامن والأقوى هو الخلود، يريد كل فنان أن يترك وراءه الإرث الذى يجعله باقياً مهما تلاشى جسده عن الدنيا، بغض النظر عن كون هذا الخلود وهمى، ففى النهاية لن ينتفع أى فنان من بقاء فنه إذا لم يبقى هو بجسده ووعيه للمس هذا البقاء، ولكنها كما قلت مجرد قشة يتعلق بها إنسان لديه ما يكفى من الألم للقبول بأى تعويض وإن كان محض وهم.
نرصد ما سبق بشكل أكثر وضوحاً فى شخصية ميك، صانع الأفلام الذى قرر إنهاء تاريخه الفنى بكتابة سيناريو يصفه بغرور بأنه إنجيله الخاص أو وصيته الأخيرة للعالم، فهو السيناريو الذى يريد به تحقيق أحلامه الضائعة عبر سنوات من تقديم أفلام اكتشف فجأة كونها هراء، ما يجعله يرتعد، فنهايته تقترب ويظن أنه لم يترك الشىء الذى يحفظ تاريخه. يتجسد هذا الارتعاد أيضاً فى ذلك المشهد الذى يسأله أحد رفاقه عن نهاية الفيلم الذى يكتبه فيصمت قليلاً فى توتر ثم يجيب "سنأتى بواحدة آجلا أو عاجلا" ثم يقوم بعدها بفتح زجاجة الشمانيا بحركة عصبية. فمفهوم النهاية عموما أصبح هو مصدر الرعب الأكبر له، إنه السبب الرئيسى الذى يجعله يكتب ذلك الإنجيل أو الوصية المزعومة، كى يهرب من نهايته.
كما نرصد نفس الهم عند شخصية جيمى، حين يدخل فى ذلك الحوار اليائس مع بالينجر عن خطأ الإنجراف فى حياة الطيش الخفيفة والتسامح مع النزوات، حيث أنه يعانى كل ما يعانيه الآن من نزوة فنية قدم فيها شخصية تافهة التصقت به فوصمته ثم قامت بمحو باقى تاريخه الفنى الأكثر جدية. لو دققنا فى هذا الهم لوجدناه يعود بنا لمعضلة الخلود نفسها، بماذا سيتذكرك الناس حين تنتهى، بالإضافة لمعضلة أخرى وهى الجحود، عن طريق اختزال سيرة إنسان فى نزوة.
 
وبالرغم من إجابة بالينجر التى اتسمت بالتبرير والدفاع عن الطيش إلا أننا نكتشف بمرور الأحداث أنها إجابة مزيفة يتخفى بها من جرحه الشخصى، فبالينجر يعانى هو الآخر من نفس معضلة الجحود مع إبنته، يظهر ذلك فى المشهد الحوارى بينه وبين ميك حين يخبره بحزنه عندما يجد إبنته قد نست أو لا تعلم شىء عن حجم المساعى والتضحيات التى بذلها من أجل إسعادها منذ كانت طفلة، كل ذلك بسبب نزوة أو أكثر قام فيها بخيانة أمها، وأنه خائف إذا مات الآن أللا تتذكره بما هو جيد. ومن هنا وهناك تتعقد معضلة الخلود بمعضلة أخرى وهى الجحود، أو لنسميها الذاكرة، فحتى إن كنت تركت ما هو قيّم لإبقائك خالداً، فإن الذاكرة الإنسانية - أداة الخلود الوهمى - ليست دوماً عادلة.
نتوقف قليلاً لنتذكر حفل الأوسكار منذ عامين والذى تسلم فيه سورنتينو جائزته، ونلاحظ أنه فى خطابه قد قدّم التحية لشخص من الذين ألهموه يدعى "دييجو أرماندو مارادونا". رغم عظمة هذا الإسم إللا أنى أشك بقوة اذا كان أغلب من بالقاعة يومها يعرفوا عمن يتحدث سورنتينو، فالأميريكيون لا يهتمون بكرة القدم، وحتى معظم مقالات النقاد الأميريكيين لم تصل إلى أن سورنتينو يقدم شخصية "مارادونا" بشكل متنكر فى فيلمه "شباب".

تلك مفارقة تتناغم مع فكرة الذاكرة غير العادلة التى طرحناها، كما أن مارادونا نفسه بسيرته الدراماتيكية هو أحد الرموز الساطعة للتدليل على مفهوم العلاقة الشائكة بين العظمة والنزوات وكيف تلغى إحداهما الأخرى، وهو من صميم ما يطرحه الفيلم. كما أن ذلك ظهر فى أحد مشاهد الفيلم بحمام السباحة حين يتدخل هو فى مناقشة بين بالينجر والطفل العازف للكمان ويخبرهم بأنه أيضاً أيسر مثل الطفل، فيرد جيمى "الجميع يعلم أنك أيسر". لكن ما قاله جيمى  ليس مؤكداً، فربما هناك من لا يعلم، وهذا اللا يقين هو السبب الذى دفع مارادونا للتدخل فى الحوار من الأساس وتذكيرهم بأنه أيضاً "أيسر" وكأنه فى الحقيقة يستجدى منهم الخلود بطلب أن تظل ذكراه معروفة .. "أنا أشول" .. "تذكرونى".
هذه الرغبة اليائسة فى الخلود عبر عنها سورنتينو أيضاً بشكل بصرى رائع فى مشاهد خلوة الشخصيات مع أنفسها. مارادونا ينطىء كرة التنس فى الهواء بحماس وغيظ اعتراضاً على سنوات المجد التى لا تريد العودة، وبالينجر يقوم بقيادة أوركيسترا أصوات الطبيعة والمواشى والطيور، كما يناجى ميك الشخصيات النسائية بأفلامه والتى اجتمعت كلها أمام عينيه فى الغابة. كل منهم يقلب فى دفاتره القديمة ويحزن. لعل محاولة بالينجر كانت الأنجح لأنها تهدف للتوحد مع الطبيعة التى لا تفنى وإن فنى الإنسان، وكأن بالينجر قد قبِل بالأمر الواقع ولا يمانع فى أن يخلد حتى ولو عن طريق تحلل جسده وتحوله لعناصر أخرى فى الطبيعة.
المعاناة فى الفيلم لم تقتصر على المسنين، فحتى الشخصيات الشابة خائفة، ويظهر ذلك فى أحد المشاهد البديعة التى تنتقل فيها الكاميرا بسلاسة بين أوجه صناع الفيلم الذى يصنعه ميك وهم نائمون بجوار بعضهم البعض وفى حالة عصف ذهنى وروحى بحثاً عن نهاية للفيلم، ولكن نبرة أصواتهم احتوت على ما يكفى من يأس وكآبة لنفهم أن الأمر لا يقتصر على نهاية الفيلم وحده بل على نهايتهم هم أيضاً، هل ستكون درامية أم واقعية أم رومانسية؟ هم عاجزين عن إيجاد نهاية لأنهم فى أعماقهم يعتقدون أنه لا يجب أن تكون هناك نهاية من الأساس!
وبمثل حادثة التواصل الأجيالى التى تمت بين مارادونا والطفل عازف الكمان والتى بدت وكأن الأول يريد من الأخير أن يتذكره فيخلده، فإن الأمر يتكرر أيضاً مع بالينجر وعاملة التدليك المراهقة، التى فى نهاية الفيلم وجدناها تقلع عن الرقص على إيقاعات موسيقى البوب وتؤثر بدلا منها التمايل على أنغام المقطوعة الكلاسيكية التى ألفها بالينجر، وكأن الأخير قد نجح فى تلك اللقطة بالفوز ببعض الخلود.
رغم أن "شباب" لن يحصد ربع عدد الجوائز التى حصدها "الجمال العظيم"، إلا أنى أراه الفيلم الأفضل، حيث حافظ سورنتينو على نفس قدر الجماليات بفيلمه السابق ولكنه تدارك أيضاً عيوبه الكبرى والتى تلخصت فى تهميش العاطفة والمغزى. هذه المرة تتضح صراعات وهموم الشخصيات من اللحظة الأولى، هذه المرة أنت قادر على الشعور بخوائهم النفسى قبل وهنهم الجسدى. وحتى اللحظات الشعرية التأملية كانت أكثر ارتباطاً بالدراما وأعلى فى جرعة الشحن العاطفى، وأقل فى الإدعاء. وبرغم حصة الكآبة إلا إنه احتوى على لحظات شديدة الظرف والسخرية تجعله واحداً من أرقى أفلام الكوميديا السوداء فى الفترة الأخيرة.

0 التعليقات:

 

 (نشر هذا المقال ورقياً للمرة الأولى بمجلة "أبيض وأسود" فى عدد شهر يونيه ضمن ملف خاص عن المخرج "تيم بورتن)

يقول وينستن تشيرشل: "النجاح هو أن تتنقل بين فشل وآخر دون أن تفقد حماسك"، ربما لم يسمع المخرج الأميريكى "تيم بورتن" بهذه المقولة قط، ولكنها على أية حال قد أتت بخلاصة ما دار فى باله وباقى صناع فيلم "إد وود - 1994" قبل شروعهم فى تنفيذه. فما أكثر تلك الأفلام التى قدمت قصص النجاح، سواء لمشاهير أو لشخصيات خيالية، ولكن ما أكثرها ندرة تلك التى تقدم قصص الفشل بهذا الشكل الاحتفائى!


هذا بالرغم من أن الأخيرة كثيراً ما تحتوى على ما يفوق الأولى من روعة وحماسة وملحمية، لدرجة قد تجعل المتلقى يعيد تعريف النجاح ويصبح أكثر تصالحاً وتفهماً لما تفرضه الحياة من واقع قد يتنافى مع ثقافة التنمية الذاتية مثلا، التى تبشر بنتائج مضمونة كرد فعل بديهى على الجهد والشغف والمثابرة والحلم والتفاؤل وأشياء أخرى، بجانب مقالات وكتب "العشر أشياء" التى تقدم الوعود لفاعلها بأنه سيصبح أعظم إنساناً فى الكون، متناسيين أن قانون الحياة الأول هو أنه لا قانون. فأحياناً يتلخص الامر ببساطة فى عدم وجود تقاطع بين طريقك وطريق النجاح، الأمر ليس شخصياً .. لا يجب أن تقتل نفسك .. فقط تآمرت عليك ظروف أقوى منك، كالحتمية والحظ والجينات والقدرات. كل ما عليك فعله أن تقبل بأن الفشل جزء من الحياة، وأن ما يبقيك حياً ليس النجاح بقدر ما هو الشغف.

بميزانية تصل إلى 18 مليون دولار قدم "تيم بورتن" بالتعاون مع المؤلفين "سكوت اليكساندر" و"لارى كاراسفزكى" فيلما عن "إدوارد وود"، صانع أفلام الدرجة الثانية الكلاسيكية الرخيصة أو كما تعرف بـ B Movies، وهى ميزانية تفوق بنحو مئة ضعف ميزانيات الأفلام التى صنعها وود مجتمعة، وسيسهل استنتاج ذلك حين تشاهد تلك الأفلام أو بمجرد العلم بحقيقة أن وود قد لقّب بـ "أسوأ صانع أفلام فى التاريخ"!


وإن أردنا الدقة فلا نستطيع وصف فيلم بورتن بأنه سيرة ذاتية تقليدية عن إدوارد وود، لأنه أولاً يتعامل مع حياة الاخير بمنطق هزلى ساخر يخلط بين الأحداث الواقعية من ناحية وبين المبالغات والتجويد من ناحية أخرى، وما يزيد الأمر تعقيداً هو أن حتى ما عايشه وود فعلياً كان أغرب من الخيال، ما يجعلنا كمشاهدين نقف فى النهاية فى منطقة ضبابية لا نستطيع التمييز بين ما هو فعلى وما هو مختلق.
أحد أبرز الأمثلة على حالة التجويد التى تجدر الاشارة لها تخص الخط الدرامى المتعلق بشخصية "دولوريسا فولر" عشيقة وود الأولى التى أدت دورها الممثلة "سارة جيسيسكا باركر"، وقد أظهرها الفيلم بصورة أنانية فهى تتخلى عن شريك حياتها بسبب تعثره المهنى، أما الحقيقة فهى أنها انفصلت عنه نظراً لإدمانه الكحوليات، ولكننا فى النهاية لا نهتم على أية حال؛ لأن الحالة التى أمامنا على الشاشة تفوق فى اثارتها الدرامية وجاذبيتها الجمالية تلك الاعتبارات التقليدية عن أفلام السير الذاتية.

أما السبب الثانى الذى لا يجعلنا نتعاطى مع الفيلم كونه سيرة ذاتية، هو انه اقتطع جزء صغير من حياة وود ليقدمه لنا، وهو الجزء المتعلق بمرحلة صناعة أول أفلامه "جلين أو جليندا" من انتاج عام 1953، وحتى صناعة فيلمه الأكثر قبولاً "الخطة 9 من الفضاء الخارجى"، من انتاج عام 1959، أى أن المدة الفعلية التى تدور بها الأحداث هى ست سنوات فقط من حياة وود، وهى الفترة التى تمثل سنوات البراءة والشغف.

حيث أن وود قد انتقل بعدها بسنوات لصناعة الأفلام الايروسية والبورن، وهذا ما تغاضى عنه فيلم بورتن وقد اكتفى بالقدر الذى يحقق احترامه وتقديره لوود، كما يحقق لبورتن دوافعه الذاتية من وراء صنع هذا الفيلم والتى كانت فى رأيى التأكيد على ان الفشل المهنى ليس النهاية، هذا لو علمنا أن أول الأفلام التى صنعها بورتن نفسه مع شركة ديزنى قد فشلت فشلاً ذريعاً. أما الدافع الذاتى الآخر لبورتن والذى كان قد تحدث عنه كان العلاقة الحميمية التى ربطت بين إدوارد وود وبطل أفلامه "بيلا لوجوسى"، والتى تذكره (أى بورتن) بعلاقته مع الممثل "فينسينت برايس" أحد أبطال فيلمه السابق "إدوارد ذو يد المقص - 1990"

شخصية وود تتشارك فى غرائبيتها مع كل الشخصيات التى قدمها بورتن قبل هذا الفيلم، فهو مولع بهذا النوع وقد استمد هذا الولع من عشقه القديم لفن الرسوم المتحركة، لعل شخصية وود كانت الاقل غرائبية من حيث عدم تمتعها بقدرات خارقة مثل "باتمان" أو "ادوارد ذو يد المقص" أو "بيتلجوس"، لكنها تظل حالة عجيبة ومحيرة، وقد كساها بورتن فى أسلوبه الاخراجى بزى الرسوم المتحركة عن طريق إضفاء عدة سمات، أبرزها تصحيح الألوان الذى جاء متطرف فى التمايز Contrast بين الأبيض والأسود، ما يعطى الايحاء بأننا لسنا أمام فيلماً كلاسيكياً تقليدياً بل شىء أقرب لمجلة كوميك تحوى قصة سوداوية. السمة الأخرى كانت الموسيقى الكلاسيكية التى تحاكى موسيقى أفلام فترة الخمسينيات مع بعض التنويعات على مقطوعة "بحيرة البجعة" لتشايكوفسكى، وهذه الخلطة ساعدت فى تكريس ايحاء بالحقبة الكلاسيكية التى يتناولها الفيلم، وايحاء آخر بالعالم الأسطورى الغرائبى الذى يفرضه الفيلم كغلاف أسلوبى لسرد الأحداث.


ولم تكن المحاكاة الموسيقية والبصرية هى كل ما اتبعه بورتن فى بناءه لهذا الفيلم، بل تأتى أيضاً آلية اختيار الممثلين لتحاكى الشخصيات التى يجسدونها. فيبرر بورتن اختياره للمثل "مارتن لاندايو" لأداء دور "بيلا لوجوسى"، وقد فاز بجائزة الأوسكار عن أداء هذا الدور، قائلاً: "فكرت بأن هذا هو ممثل بدأ عمله التمثيلى مع هيتشكوك وانتهى به الأمر إلى أدوار ثانوية فى أعمال تلفزيونية لمدة العشرين سنة الأخيرة. إنه سيفهم بامتياز ما سيؤول إليه وضع بيلا لوجوسى، سيقوم بفهمه على مستوى إنسانى بدون المبالغة الدرامية فى تجسيده." (من كتاب "محاضرات فى الإخراج السينمائى" تحرير لوران تيرار وترجمة محسن ويفى.)

يبقى الهم الأكبر لدى البطل هو الخلود، الخلود عبر الفن بأن يتذكره الناس، فهو حلم مغرى ويستحق هذا العناء والتعثر من فشل إلى فشل، يعبر وود عن هذا الحلم بجملة حوارية يقولها بعد انتهاء العرض الأول لفيلم "الخطة 9 من الفضاء الخارجى" الذى نال استحسان لا بأس به من الجمهور لأول مرة، "هذا ما سوف يتذكرنى الناس من خلاله"، لكن هذا الحلم لم يتم التعبير عنه من خلال الدراما والحوار فقط فهو يظهر أحياناً من خلال الأسلوب المونتاجى أيضاً، ويمكن ملاحظة ذلك بتنقلات المزج من أعلى أو أسفل، وكأن المشاهد هى صفحات تاريخ تطوى رغم أنف أبطالها، وكل ما عليهم فعله بين طى صفحة وأخرى هو العثور لنفسهم على مكان للخلود بعد الموت، وما يؤكد هذه الرؤية مشهد دفن "بيلا لوجوسى" بحيث تصعد الكاميرا من أعلى غطاء التابوت الذى قام بدور الظلام وكأنه مزج أو طوى بين الحياة والموت وما بينهما من مساحة تمثل أثر الانسان فى هذه الحياة إن كان قد ترك ما يضمن له البقاء أدبياً أم لا.

"إد وود" ليس فقط قصة عن النجاح والفشل المهنى، أو مجرد خطاب غرامى موجه للشغف، بل هو أيضاً لوحة متوهجة الصدق والشاعرية عن الصداقة والحب والتضحية، فما ظهر فى البداية بأنه استغلال من وود لنجومة لوجوسى المنطفئة لتسويق الأفلام قد تحول فى النهاية إلى علاقة صداقة ملهمة لا تتكرر كثيراً فى السينما أو حتى الواقع. لقد شعرنا أن وود ربما لن يحالفه الحظ أبداً فى النجاح الفنى وأنه لن يصل يوماً لمثل نجاح عرّابه السينمائى "أورسن ويلز"، ولكنه أكثر سعادة من ويلز، أقل كآبة وعبوساً واحباطاً منه، فضلاً عن أن له حبيبة شغوفة وتتقبل ميوله فى ارتداء الملابس النسائية وتبقى مخلصة لذكراه فلا تتزوج غيره أبداً حتى بعد وفاته، لننهى الفيلم بشعور أن "إدوارد وود" لم يفشل حقاً.

Ed Wood .. حين انتصر الشغف

كتب Amgad Gamal  |  نشر في :  2:24 م 0 تعليقات

 

 (نشر هذا المقال ورقياً للمرة الأولى بمجلة "أبيض وأسود" فى عدد شهر يونيه ضمن ملف خاص عن المخرج "تيم بورتن)

يقول وينستن تشيرشل: "النجاح هو أن تتنقل بين فشل وآخر دون أن تفقد حماسك"، ربما لم يسمع المخرج الأميريكى "تيم بورتن" بهذه المقولة قط، ولكنها على أية حال قد أتت بخلاصة ما دار فى باله وباقى صناع فيلم "إد وود - 1994" قبل شروعهم فى تنفيذه. فما أكثر تلك الأفلام التى قدمت قصص النجاح، سواء لمشاهير أو لشخصيات خيالية، ولكن ما أكثرها ندرة تلك التى تقدم قصص الفشل بهذا الشكل الاحتفائى!


هذا بالرغم من أن الأخيرة كثيراً ما تحتوى على ما يفوق الأولى من روعة وحماسة وملحمية، لدرجة قد تجعل المتلقى يعيد تعريف النجاح ويصبح أكثر تصالحاً وتفهماً لما تفرضه الحياة من واقع قد يتنافى مع ثقافة التنمية الذاتية مثلا، التى تبشر بنتائج مضمونة كرد فعل بديهى على الجهد والشغف والمثابرة والحلم والتفاؤل وأشياء أخرى، بجانب مقالات وكتب "العشر أشياء" التى تقدم الوعود لفاعلها بأنه سيصبح أعظم إنساناً فى الكون، متناسيين أن قانون الحياة الأول هو أنه لا قانون. فأحياناً يتلخص الامر ببساطة فى عدم وجود تقاطع بين طريقك وطريق النجاح، الأمر ليس شخصياً .. لا يجب أن تقتل نفسك .. فقط تآمرت عليك ظروف أقوى منك، كالحتمية والحظ والجينات والقدرات. كل ما عليك فعله أن تقبل بأن الفشل جزء من الحياة، وأن ما يبقيك حياً ليس النجاح بقدر ما هو الشغف.

بميزانية تصل إلى 18 مليون دولار قدم "تيم بورتن" بالتعاون مع المؤلفين "سكوت اليكساندر" و"لارى كاراسفزكى" فيلما عن "إدوارد وود"، صانع أفلام الدرجة الثانية الكلاسيكية الرخيصة أو كما تعرف بـ B Movies، وهى ميزانية تفوق بنحو مئة ضعف ميزانيات الأفلام التى صنعها وود مجتمعة، وسيسهل استنتاج ذلك حين تشاهد تلك الأفلام أو بمجرد العلم بحقيقة أن وود قد لقّب بـ "أسوأ صانع أفلام فى التاريخ"!


وإن أردنا الدقة فلا نستطيع وصف فيلم بورتن بأنه سيرة ذاتية تقليدية عن إدوارد وود، لأنه أولاً يتعامل مع حياة الاخير بمنطق هزلى ساخر يخلط بين الأحداث الواقعية من ناحية وبين المبالغات والتجويد من ناحية أخرى، وما يزيد الأمر تعقيداً هو أن حتى ما عايشه وود فعلياً كان أغرب من الخيال، ما يجعلنا كمشاهدين نقف فى النهاية فى منطقة ضبابية لا نستطيع التمييز بين ما هو فعلى وما هو مختلق.
أحد أبرز الأمثلة على حالة التجويد التى تجدر الاشارة لها تخص الخط الدرامى المتعلق بشخصية "دولوريسا فولر" عشيقة وود الأولى التى أدت دورها الممثلة "سارة جيسيسكا باركر"، وقد أظهرها الفيلم بصورة أنانية فهى تتخلى عن شريك حياتها بسبب تعثره المهنى، أما الحقيقة فهى أنها انفصلت عنه نظراً لإدمانه الكحوليات، ولكننا فى النهاية لا نهتم على أية حال؛ لأن الحالة التى أمامنا على الشاشة تفوق فى اثارتها الدرامية وجاذبيتها الجمالية تلك الاعتبارات التقليدية عن أفلام السير الذاتية.

أما السبب الثانى الذى لا يجعلنا نتعاطى مع الفيلم كونه سيرة ذاتية، هو انه اقتطع جزء صغير من حياة وود ليقدمه لنا، وهو الجزء المتعلق بمرحلة صناعة أول أفلامه "جلين أو جليندا" من انتاج عام 1953، وحتى صناعة فيلمه الأكثر قبولاً "الخطة 9 من الفضاء الخارجى"، من انتاج عام 1959، أى أن المدة الفعلية التى تدور بها الأحداث هى ست سنوات فقط من حياة وود، وهى الفترة التى تمثل سنوات البراءة والشغف.

حيث أن وود قد انتقل بعدها بسنوات لصناعة الأفلام الايروسية والبورن، وهذا ما تغاضى عنه فيلم بورتن وقد اكتفى بالقدر الذى يحقق احترامه وتقديره لوود، كما يحقق لبورتن دوافعه الذاتية من وراء صنع هذا الفيلم والتى كانت فى رأيى التأكيد على ان الفشل المهنى ليس النهاية، هذا لو علمنا أن أول الأفلام التى صنعها بورتن نفسه مع شركة ديزنى قد فشلت فشلاً ذريعاً. أما الدافع الذاتى الآخر لبورتن والذى كان قد تحدث عنه كان العلاقة الحميمية التى ربطت بين إدوارد وود وبطل أفلامه "بيلا لوجوسى"، والتى تذكره (أى بورتن) بعلاقته مع الممثل "فينسينت برايس" أحد أبطال فيلمه السابق "إدوارد ذو يد المقص - 1990"

شخصية وود تتشارك فى غرائبيتها مع كل الشخصيات التى قدمها بورتن قبل هذا الفيلم، فهو مولع بهذا النوع وقد استمد هذا الولع من عشقه القديم لفن الرسوم المتحركة، لعل شخصية وود كانت الاقل غرائبية من حيث عدم تمتعها بقدرات خارقة مثل "باتمان" أو "ادوارد ذو يد المقص" أو "بيتلجوس"، لكنها تظل حالة عجيبة ومحيرة، وقد كساها بورتن فى أسلوبه الاخراجى بزى الرسوم المتحركة عن طريق إضفاء عدة سمات، أبرزها تصحيح الألوان الذى جاء متطرف فى التمايز Contrast بين الأبيض والأسود، ما يعطى الايحاء بأننا لسنا أمام فيلماً كلاسيكياً تقليدياً بل شىء أقرب لمجلة كوميك تحوى قصة سوداوية. السمة الأخرى كانت الموسيقى الكلاسيكية التى تحاكى موسيقى أفلام فترة الخمسينيات مع بعض التنويعات على مقطوعة "بحيرة البجعة" لتشايكوفسكى، وهذه الخلطة ساعدت فى تكريس ايحاء بالحقبة الكلاسيكية التى يتناولها الفيلم، وايحاء آخر بالعالم الأسطورى الغرائبى الذى يفرضه الفيلم كغلاف أسلوبى لسرد الأحداث.


ولم تكن المحاكاة الموسيقية والبصرية هى كل ما اتبعه بورتن فى بناءه لهذا الفيلم، بل تأتى أيضاً آلية اختيار الممثلين لتحاكى الشخصيات التى يجسدونها. فيبرر بورتن اختياره للمثل "مارتن لاندايو" لأداء دور "بيلا لوجوسى"، وقد فاز بجائزة الأوسكار عن أداء هذا الدور، قائلاً: "فكرت بأن هذا هو ممثل بدأ عمله التمثيلى مع هيتشكوك وانتهى به الأمر إلى أدوار ثانوية فى أعمال تلفزيونية لمدة العشرين سنة الأخيرة. إنه سيفهم بامتياز ما سيؤول إليه وضع بيلا لوجوسى، سيقوم بفهمه على مستوى إنسانى بدون المبالغة الدرامية فى تجسيده." (من كتاب "محاضرات فى الإخراج السينمائى" تحرير لوران تيرار وترجمة محسن ويفى.)

يبقى الهم الأكبر لدى البطل هو الخلود، الخلود عبر الفن بأن يتذكره الناس، فهو حلم مغرى ويستحق هذا العناء والتعثر من فشل إلى فشل، يعبر وود عن هذا الحلم بجملة حوارية يقولها بعد انتهاء العرض الأول لفيلم "الخطة 9 من الفضاء الخارجى" الذى نال استحسان لا بأس به من الجمهور لأول مرة، "هذا ما سوف يتذكرنى الناس من خلاله"، لكن هذا الحلم لم يتم التعبير عنه من خلال الدراما والحوار فقط فهو يظهر أحياناً من خلال الأسلوب المونتاجى أيضاً، ويمكن ملاحظة ذلك بتنقلات المزج من أعلى أو أسفل، وكأن المشاهد هى صفحات تاريخ تطوى رغم أنف أبطالها، وكل ما عليهم فعله بين طى صفحة وأخرى هو العثور لنفسهم على مكان للخلود بعد الموت، وما يؤكد هذه الرؤية مشهد دفن "بيلا لوجوسى" بحيث تصعد الكاميرا من أعلى غطاء التابوت الذى قام بدور الظلام وكأنه مزج أو طوى بين الحياة والموت وما بينهما من مساحة تمثل أثر الانسان فى هذه الحياة إن كان قد ترك ما يضمن له البقاء أدبياً أم لا.

"إد وود" ليس فقط قصة عن النجاح والفشل المهنى، أو مجرد خطاب غرامى موجه للشغف، بل هو أيضاً لوحة متوهجة الصدق والشاعرية عن الصداقة والحب والتضحية، فما ظهر فى البداية بأنه استغلال من وود لنجومة لوجوسى المنطفئة لتسويق الأفلام قد تحول فى النهاية إلى علاقة صداقة ملهمة لا تتكرر كثيراً فى السينما أو حتى الواقع. لقد شعرنا أن وود ربما لن يحالفه الحظ أبداً فى النجاح الفنى وأنه لن يصل يوماً لمثل نجاح عرّابه السينمائى "أورسن ويلز"، ولكنه أكثر سعادة من ويلز، أقل كآبة وعبوساً واحباطاً منه، فضلاً عن أن له حبيبة شغوفة وتتقبل ميوله فى ارتداء الملابس النسائية وتبقى مخلصة لذكراه فلا تتزوج غيره أبداً حتى بعد وفاته، لننهى الفيلم بشعور أن "إدوارد وود" لم يفشل حقاً.

0 التعليقات:


((نشر هذا المقال ورقياً للمرة الأولى فى عدد شهر مايو 2015 من مجلة "أبيض وأسود" ضمن ملف خاص عن المخرج ستانلى كوبريك))

"الرعشة .. ذلك ما شعرت به بعد انتهاء هذا الفيلم. أعلم أنها ليست الكلمة المنتظرة من ناقد. ولكن هذا ما حدث، فقد شعرت برعشة تنتاب دواخل جسدى." هكذا جاء تعليق قديس النقد السينمائى الأميريكى "روجر إيبيرت" بأحد الأفلام الوثائقية التى تتناول فيلم "2001: أوديسة الفضاء" للمخرج الاستثنائى "ستانلى كوبريك" والمؤلف "آرثر سى كلارك"، وهو الفيلم الذى يحظى بمكانة خاصة فى أذهان عشاق الفن السابع، كما يحتل المرتبة الخامسة عشر بقائمة معهد الفيلم الأميريكى لأفضل 100 فيلم فى التاريخ.

وما يجعلنا نتوقف أمام هذا التعليق من إيبيرت هو أنه قرر أن نقطة البداية لمناقشة فيلم كهذا يجب أن تتعلق بالشعور لا الفكر، وهو العكس تماماً مما يفعله غالبية من شاهدوا الفيلم، نقاداً كانوا أو مشاهدين، فهم وبمجرد انتهاءه يهرعون للنقاش والبحث حول ما كان يعنيه كوبريك بهذه اللقطة، وما كان يقصده فى هذا المشهد، وما يرمز له هذا الشىء أو تعبر عنه تلك الحركة..الخ. نعم، فهو فيلم محير ويعج بالغموض. ولكن الغموض وحده ليس سبباً كافياً لاثارة شغف المرء وجلب اهتمامه، أما الأفكار البراقة فوحدها يمكنها صناعة مقالاً جيداً أو ورقة بحثية عظيمة، لكنها غير كافية لكى تصنع فناً مُدهشا ملىء بالمحفزات الشعورية التى تجعلنا نعطى هذا الاهتمام الفكرى لأوديسة الفضاء.

أبرز سمة ارتكز عليها الفيلم كانت الإقناع، وسحر الإقناع هنا يكمن فى أنه غير مشروط بالمصداقية، أى أن كوبريك قد قدم لنا توقعه للمستقبل والتكنولوجيا بصورة متماسكة مازالت صامدة حتى الآن برغم معاصرتنا كمشاهدين لهذا المستقبل، الذى أصبح اليوم ماضى، وبالرغم من تأكدنا من أن هذا المستقبل لم يتطابق كلياً مع ما عايشناه فى الألفية، لعله كان أكثر تفاؤلاً وطموحاً، إللا أن هذا لم يؤثر مطلقاً فى حجم جدية تلقينا للفيلم فى عصرنا هذا، لأنه ومنذ البداية يبرم معنا عقد الدخول فى عالمه الخاص والسير خلف فرضياته المثيرة حول ألغاز الوجود والحالة الإنسانية وعلاقتها بما حولها وفقا لرؤيته وخياله الخاص المبنى فى الأساس على نظريات علمية وفلسفات دينية.


بحالة يمكن وصفها بالتجريدية يمكننا تقسيم الفيلم إلى ثلاث مراحل زمنية لكل منها قصتها الخاصة، البداية مع فجر البشرية حيث الإنسان البدائى الذى يتاشبه والشامبانزى، ثم ننتقل إلى مرحلة أكثر معاصرة للإنسان فى وقت صناعة كوبريك للفيلم، وهو الوقت الذى كانت فيه البشرية على شفا الوصول للقمر، والمرحلة الثالثة ليست شديدة البعد زمنيا عن سابقتها ولكن دلالتها ما تجعلها مستقلة عنها وهى الأكثر تقدم بحيث يتخطى الإنسان غلافه الجوى الضيق ويسبح فى مناطق أكثر عمقاً من الفضاء ولكن الأهم أنه لم يعد وحده الكائن الأذكى والأكثر تفوقاً فقد أصبح هنالك من يهدده وينازعه تلك المكانة.

جمع بين الثلاث مراحل نفس نقطة التحول وهى النقطة التى يصل فيها الإنسان لنوع من الوحى المتمثل فى ذلك اللوح الأسود المُعلق الذى يظهر فجأة من حيث العدم ليثير فضول الإنسان فيقترب منه فتحدث النقلة التطورية. تعددت تفاسير ما يرمز له هذا اللوح، فهناك من ذهب إلى أنه مبعوث الذات الإلاهية، وهناك من إتفق بأنه ينتمى لكائنات فضائية أكثر ذكاءً من الإنسان تساعده فى كل مرة للإرتقاء لأسباب غامضة، ربما هذا التفسير الأقرب للحقيقة خاصة لو علمنا أن نسخ الفيلم الأوّلية كانت تحتوى على صوت لراوى يتحدث طوال الفيلم عن كائنات فضائية ولكن كوبريك فضل حذفه فى النسخة النهائية. كما أن هناك تفسيرات أكثر غرائبية مثل التى تقول بأن اللوح الأسود ما هو إللا شاشة السينما التى يتابع المتفرجون منها الفيلم!

المثير هو أن لحظات الوحى تلك لم تتحق فى الثلاث مرات إللا فى نقطة تعامد بين اللوح وهلال القمر والشمس، وهذا المنظر كما قيل يمثل ترميز فى الديانة الزراديشتية للصراع الأبدى بين الخير والشر، وما يدعم ذلك الطرح هو الموسيقى الكلاسيكية التى نسمعها خلال الفيلم للمؤلف ريتشارد شتراوس بعنوان "هكذا تحدث زراديشت"، ما جعل البعض يجزم بأن الأمر لم يكن مصادفة من كوبريك، ومن ثم يربطون بين وجهة نظر كتاب فريدريك نيتشه الشهير والذى عنونت المقطوعة باسمه، ويحتوى على بيان موت الإله، ليصلوا إلى نتيجة تستبعد دور الإله من أحداث الفيلم ويقصرون الصراع فى ثلاثة أضلاع هم: أولاً الإنسان، وثانياً الحاسب الآلى الذى طوره الإنسان، وثالثاً الكائن الفضائى الذى طوّر الإنسان نفسه.

تحدثنا فى البداية على سمة الإقناع الذى ارتكز عليها كوبريك فى صنع الحالة الشعورية الخلابة التى سيطرت علينا أثناء المشاهدة، ويمكن التدليل على هذه السمة من خلال عدة أشياء، أبرزها ذلك المشهد الذى يحاول فيه "دكتور ديف بومان" ترك المركبة الصغرى لدخول الكبرى بعد أن تآمر عليه الحاسب الآلى، وفى طريقه لفعل ذلك ورغم تحايله على كافة العوائق إللا انه ينجح فى النهاية، ولكن كوبريك يفاجئنا بتفصيله مدهشة لم نكن نتوقعها، فالمركبة الصغرى تنفجر ولا نسمع سوى الصمت!

 
نعم، فالصوت لا ينتقل إللا عبر وسيط مادى ونحن الآن فى الفضاء فكيف لنا أن نسمع؟! الأمر لم يقتصر على كونه تفصيلة علمية تقنية بل قد امتد ليكون خيار فنى فى حد ذاته فقد قام الصمت بعمل الصوت أو الموسيقى نفسها فى تعبيره عن جلال ومهابة تلك اللحظة، والتى سبقها أيضاً تلاعب آخر بأدوات الصوت عن طريق تكثيف أجراس الإنذار بالمركبة الصغرى، ثم تبعها تلاعب آخر بأدوات الصوت، حين تم استخدام صوت التنفس الثقيل لإثراء الحالة البصرية فى اللحظة شديدة الإرباك.

إذا فمن الصعب إغفال الأهمية الكبرى لشريط الصوت فى هذا الفيلم، فهو البطل الأول والحقيقى، أوحى كوبريك نفسه بذلك عندما آثر بدء فيلمه بلا صورة حقيقية، بل ظلام تام لا يتناغم مع شىء سوى الموسيقى المخيفة (اللا صورة أقوى ايحاء بما قبل فجر الكون حيث العدم). ولم تكن للكائنات البشرية البدائية لغة نفهمها ولكننا توحدنا وتفاعلنا معهم عبر الصوت المجرد المتمثل فى صرخاتهم المُرجفة، ولم يكن الأمر يحتاج سوى مقطوعة موسيقية مميزة مثل مقطوعة شتراوس كى يتم تأكيد ذلك الشعور بأن الإنسان قد تطور قبل حتى أن نراه (الإنسان حيوان فنان كما تذهب المقولة)، وهل كنا سنعد HAL 9000 كواحد من أفضل الشخصيات الشريرة فى تاريخ السينما لولا ذلك الأداء الصوتى المذهل من "دوجلاس رين"؟!، ناهيك عن أصوات الكورال التى تصرخ صرخات روحية متألمة ومتوسلة القوى بأن تهديها الحقيقة أو تمنحها أو الخلود كما سمعنا فى القطعة التى تمهد لمشهد السباحة بين النجوم نحو اللا نهاية.

لنهاية الفيلم العديد من التفسيرات، ولكن ما يجب التوقف أمامه أولاً هو تصريح لمؤلف الفيلم والرواية "آرثر سى كلارك" يقول فيه: "إذا استوعبت الفيلم بشكل كامل نكون قد فشلنا، فغرضنا كان طرح أكبر قدر من الأسئلة التى لم نجب عنها" إنتهى. حسنا، فى رأيى الشخصى، الذى لا الزمك به عزيزى القارىء، هو أن النهاية لم تكن سوى إعادة أكثر تجريدية لأحداث الفيلم، حيث ترمز المراحل العمرية الثلاث لـ "ديف" بالمراحل التطورية التى مر بها الإنسان نفسه، ومراحل أخرى غيرها فى رحلة لا نهائية من التطور، أما موت العجوز وما تبعه من صورة لطفل داخل فقاعة فهو تعبير عن حالة التسامى القصوى التى يظن الإنسان أنه قد يصل لها فى نهاية رحلته، ولا يصبح بعدها بحاجة للشغف الذى دفعه عدة مرات لتفقد اللوح الأسود الغامض، فقدان الشغف هو نقطة اللا تطور .. حين يصبح الإنسان هو القوى الغامضة الكبرى أو الإله نفسه!

2001 أوديسة الفضاء .. تساؤلات وجودية بلا جواب

كتب Amgad Gamal  |  نشر في :  9:35 م 0 تعليقات


((نشر هذا المقال ورقياً للمرة الأولى فى عدد شهر مايو 2015 من مجلة "أبيض وأسود" ضمن ملف خاص عن المخرج ستانلى كوبريك))

"الرعشة .. ذلك ما شعرت به بعد انتهاء هذا الفيلم. أعلم أنها ليست الكلمة المنتظرة من ناقد. ولكن هذا ما حدث، فقد شعرت برعشة تنتاب دواخل جسدى." هكذا جاء تعليق قديس النقد السينمائى الأميريكى "روجر إيبيرت" بأحد الأفلام الوثائقية التى تتناول فيلم "2001: أوديسة الفضاء" للمخرج الاستثنائى "ستانلى كوبريك" والمؤلف "آرثر سى كلارك"، وهو الفيلم الذى يحظى بمكانة خاصة فى أذهان عشاق الفن السابع، كما يحتل المرتبة الخامسة عشر بقائمة معهد الفيلم الأميريكى لأفضل 100 فيلم فى التاريخ.

وما يجعلنا نتوقف أمام هذا التعليق من إيبيرت هو أنه قرر أن نقطة البداية لمناقشة فيلم كهذا يجب أن تتعلق بالشعور لا الفكر، وهو العكس تماماً مما يفعله غالبية من شاهدوا الفيلم، نقاداً كانوا أو مشاهدين، فهم وبمجرد انتهاءه يهرعون للنقاش والبحث حول ما كان يعنيه كوبريك بهذه اللقطة، وما كان يقصده فى هذا المشهد، وما يرمز له هذا الشىء أو تعبر عنه تلك الحركة..الخ. نعم، فهو فيلم محير ويعج بالغموض. ولكن الغموض وحده ليس سبباً كافياً لاثارة شغف المرء وجلب اهتمامه، أما الأفكار البراقة فوحدها يمكنها صناعة مقالاً جيداً أو ورقة بحثية عظيمة، لكنها غير كافية لكى تصنع فناً مُدهشا ملىء بالمحفزات الشعورية التى تجعلنا نعطى هذا الاهتمام الفكرى لأوديسة الفضاء.

أبرز سمة ارتكز عليها الفيلم كانت الإقناع، وسحر الإقناع هنا يكمن فى أنه غير مشروط بالمصداقية، أى أن كوبريك قد قدم لنا توقعه للمستقبل والتكنولوجيا بصورة متماسكة مازالت صامدة حتى الآن برغم معاصرتنا كمشاهدين لهذا المستقبل، الذى أصبح اليوم ماضى، وبالرغم من تأكدنا من أن هذا المستقبل لم يتطابق كلياً مع ما عايشناه فى الألفية، لعله كان أكثر تفاؤلاً وطموحاً، إللا أن هذا لم يؤثر مطلقاً فى حجم جدية تلقينا للفيلم فى عصرنا هذا، لأنه ومنذ البداية يبرم معنا عقد الدخول فى عالمه الخاص والسير خلف فرضياته المثيرة حول ألغاز الوجود والحالة الإنسانية وعلاقتها بما حولها وفقا لرؤيته وخياله الخاص المبنى فى الأساس على نظريات علمية وفلسفات دينية.


بحالة يمكن وصفها بالتجريدية يمكننا تقسيم الفيلم إلى ثلاث مراحل زمنية لكل منها قصتها الخاصة، البداية مع فجر البشرية حيث الإنسان البدائى الذى يتاشبه والشامبانزى، ثم ننتقل إلى مرحلة أكثر معاصرة للإنسان فى وقت صناعة كوبريك للفيلم، وهو الوقت الذى كانت فيه البشرية على شفا الوصول للقمر، والمرحلة الثالثة ليست شديدة البعد زمنيا عن سابقتها ولكن دلالتها ما تجعلها مستقلة عنها وهى الأكثر تقدم بحيث يتخطى الإنسان غلافه الجوى الضيق ويسبح فى مناطق أكثر عمقاً من الفضاء ولكن الأهم أنه لم يعد وحده الكائن الأذكى والأكثر تفوقاً فقد أصبح هنالك من يهدده وينازعه تلك المكانة.

جمع بين الثلاث مراحل نفس نقطة التحول وهى النقطة التى يصل فيها الإنسان لنوع من الوحى المتمثل فى ذلك اللوح الأسود المُعلق الذى يظهر فجأة من حيث العدم ليثير فضول الإنسان فيقترب منه فتحدث النقلة التطورية. تعددت تفاسير ما يرمز له هذا اللوح، فهناك من ذهب إلى أنه مبعوث الذات الإلاهية، وهناك من إتفق بأنه ينتمى لكائنات فضائية أكثر ذكاءً من الإنسان تساعده فى كل مرة للإرتقاء لأسباب غامضة، ربما هذا التفسير الأقرب للحقيقة خاصة لو علمنا أن نسخ الفيلم الأوّلية كانت تحتوى على صوت لراوى يتحدث طوال الفيلم عن كائنات فضائية ولكن كوبريك فضل حذفه فى النسخة النهائية. كما أن هناك تفسيرات أكثر غرائبية مثل التى تقول بأن اللوح الأسود ما هو إللا شاشة السينما التى يتابع المتفرجون منها الفيلم!

المثير هو أن لحظات الوحى تلك لم تتحق فى الثلاث مرات إللا فى نقطة تعامد بين اللوح وهلال القمر والشمس، وهذا المنظر كما قيل يمثل ترميز فى الديانة الزراديشتية للصراع الأبدى بين الخير والشر، وما يدعم ذلك الطرح هو الموسيقى الكلاسيكية التى نسمعها خلال الفيلم للمؤلف ريتشارد شتراوس بعنوان "هكذا تحدث زراديشت"، ما جعل البعض يجزم بأن الأمر لم يكن مصادفة من كوبريك، ومن ثم يربطون بين وجهة نظر كتاب فريدريك نيتشه الشهير والذى عنونت المقطوعة باسمه، ويحتوى على بيان موت الإله، ليصلوا إلى نتيجة تستبعد دور الإله من أحداث الفيلم ويقصرون الصراع فى ثلاثة أضلاع هم: أولاً الإنسان، وثانياً الحاسب الآلى الذى طوره الإنسان، وثالثاً الكائن الفضائى الذى طوّر الإنسان نفسه.

تحدثنا فى البداية على سمة الإقناع الذى ارتكز عليها كوبريك فى صنع الحالة الشعورية الخلابة التى سيطرت علينا أثناء المشاهدة، ويمكن التدليل على هذه السمة من خلال عدة أشياء، أبرزها ذلك المشهد الذى يحاول فيه "دكتور ديف بومان" ترك المركبة الصغرى لدخول الكبرى بعد أن تآمر عليه الحاسب الآلى، وفى طريقه لفعل ذلك ورغم تحايله على كافة العوائق إللا انه ينجح فى النهاية، ولكن كوبريك يفاجئنا بتفصيله مدهشة لم نكن نتوقعها، فالمركبة الصغرى تنفجر ولا نسمع سوى الصمت!

 
نعم، فالصوت لا ينتقل إللا عبر وسيط مادى ونحن الآن فى الفضاء فكيف لنا أن نسمع؟! الأمر لم يقتصر على كونه تفصيلة علمية تقنية بل قد امتد ليكون خيار فنى فى حد ذاته فقد قام الصمت بعمل الصوت أو الموسيقى نفسها فى تعبيره عن جلال ومهابة تلك اللحظة، والتى سبقها أيضاً تلاعب آخر بأدوات الصوت عن طريق تكثيف أجراس الإنذار بالمركبة الصغرى، ثم تبعها تلاعب آخر بأدوات الصوت، حين تم استخدام صوت التنفس الثقيل لإثراء الحالة البصرية فى اللحظة شديدة الإرباك.

إذا فمن الصعب إغفال الأهمية الكبرى لشريط الصوت فى هذا الفيلم، فهو البطل الأول والحقيقى، أوحى كوبريك نفسه بذلك عندما آثر بدء فيلمه بلا صورة حقيقية، بل ظلام تام لا يتناغم مع شىء سوى الموسيقى المخيفة (اللا صورة أقوى ايحاء بما قبل فجر الكون حيث العدم). ولم تكن للكائنات البشرية البدائية لغة نفهمها ولكننا توحدنا وتفاعلنا معهم عبر الصوت المجرد المتمثل فى صرخاتهم المُرجفة، ولم يكن الأمر يحتاج سوى مقطوعة موسيقية مميزة مثل مقطوعة شتراوس كى يتم تأكيد ذلك الشعور بأن الإنسان قد تطور قبل حتى أن نراه (الإنسان حيوان فنان كما تذهب المقولة)، وهل كنا سنعد HAL 9000 كواحد من أفضل الشخصيات الشريرة فى تاريخ السينما لولا ذلك الأداء الصوتى المذهل من "دوجلاس رين"؟!، ناهيك عن أصوات الكورال التى تصرخ صرخات روحية متألمة ومتوسلة القوى بأن تهديها الحقيقة أو تمنحها أو الخلود كما سمعنا فى القطعة التى تمهد لمشهد السباحة بين النجوم نحو اللا نهاية.

لنهاية الفيلم العديد من التفسيرات، ولكن ما يجب التوقف أمامه أولاً هو تصريح لمؤلف الفيلم والرواية "آرثر سى كلارك" يقول فيه: "إذا استوعبت الفيلم بشكل كامل نكون قد فشلنا، فغرضنا كان طرح أكبر قدر من الأسئلة التى لم نجب عنها" إنتهى. حسنا، فى رأيى الشخصى، الذى لا الزمك به عزيزى القارىء، هو أن النهاية لم تكن سوى إعادة أكثر تجريدية لأحداث الفيلم، حيث ترمز المراحل العمرية الثلاث لـ "ديف" بالمراحل التطورية التى مر بها الإنسان نفسه، ومراحل أخرى غيرها فى رحلة لا نهائية من التطور، أما موت العجوز وما تبعه من صورة لطفل داخل فقاعة فهو تعبير عن حالة التسامى القصوى التى يظن الإنسان أنه قد يصل لها فى نهاية رحلته، ولا يصبح بعدها بحاجة للشغف الذى دفعه عدة مرات لتفقد اللوح الأسود الغامض، فقدان الشغف هو نقطة اللا تطور .. حين يصبح الإنسان هو القوى الغامضة الكبرى أو الإله نفسه!

0 التعليقات:

السيرة السينمائية للمؤلف والروائى البريطانى "أليكس جارلاند" وما تتضمنها من أفلام مثل Sunshine و 28 Days Later و Dredd، تؤكد أن الرجل مصاب بوسواس الأفكار الأبوكاليبسية، سواء تلك التى تبشر بنهاية البشرية أو حتى بأوضاع مستقبلية متشائمة. فمثلا الفيلم الأول يضع ذلك الوسواس فى اطار كوزموسى تكون فيه حياة الانسان على الارض مهددة بسب إنطفاء الشمس، أما الثانى فهو أحد أشهر الأفلام التى تروج لأسطورة الزومبى وتكون فيه البشرية مهددة بانتشار هذا الوباء الخيالى المرعب، والثالث يدور فى حقبة زمنية طاغية الديستوبيا تكون فيها البشرية مهددة بسبب اختفاء مفهوم النظام. وحتى فيلمه Never Let Me Go المأخوذ عن الرواية الأكثر مبيعاً والذى ابتعد قليلاً عن هذا الوسواس لكنه ظل يبث التشاؤم حول المصير الظالم للحالة الانسانية مع تقدم الطب وتطور أنشطة نقل الأعضاء فى عالم صار فيه الانسان ذو الثروة وكرم النسب هو الأحق بالحياة ولو على حساب حياة الآخرين.

لم يتغير شىء فى فيلمه الأخير والأحدث Ex Machina سوى أنه انتقل من مرتبة الكاتب إلى مرتبة الكاتب والمخرج معاً، أما وسواس الفناء الذى يؤرقه فقد ظل حاضراً وبقوة فى حكايته عن "ناثان" ذلك المبرمج البليونير صاحب أكبر شركة لمحركات البحث فى العالم، والذى يجرى مسابقة لموظفى شركته جائزتها هى قضاء أسبوع فى قصره الأسطورى، يفوز بها "كاليب" الشاب الطموح المنطوى، وبعد ذهابه لقصر ناثان الغامض والمريب يكتشف أن مهمته هى أن يجرى "إختبار تيورينج" لأحدث اختراعات "ناثان" والذى كان عبارة عن روبوت فى هيئة أنثى مصممة بأعقد أساليب الذكاء الاصطناعى، ولمن لا يعلم "إختبار تيورينج" فهو طريقة علمية لإختبار آلات وبرامج الذكاء الاصطناعى وتقييم مدى تشابهها مع عقل الإنسان فى طريقة التفكير واتخاذ القرارات. ناثان يخبر كاليب بأنه يريد التأكد من كون اختراعه يملك وعياً حقيقياً مثل الذى يتمتع به الإنسان وليس مجرد وعى إستيهامى يعمل بطرق البرمجة التقليدية والألجوريزمات البسيطة.

بحماس حذر يوافق كاليب مخبراً ناثان بأن نجاح هذا الاختبار يعنى أن الإنسان قد تحول إلى إله، لكن ناثان لم يكن يشاطره نفس الحماس والطموح الإنسانوى، على العكس فقد أخبره لاحقاً أنه ذات يوم ستنظر آلات الذكاء الإصطناعى إلى الإنسان نفس النظرة التى ينظرها إنسان اليوم لحفريات الإنسان البدائى المنقرض فى أفريقيا. وهنا تظهر تيمتان رئيسيتان من تيمات الفيلم، تيمة الخلق وتيمة الإنقراض أو أن يحل الروبوت محل الإنسان فتكون النهاية، فكما نعرف أن جارلاند مصاب بوسواس الفناء. لكن السؤال هل التهديد هذه المرة حقاً يأتى من الروبوت؟


فى مقابلة أجرتها صحفية النيويورك تايمز "مورين دوود" مع صانع الفيلم جارلاند سألته متأثرة بتاريخه الروائى "من تظنه سيقضى على البشرية أولاً، الروبوت أم الزومبى؟"، فجائت إجابته "لا هذا ولا ذاك، سنقوم نحن [يقصد الإنسان] بهذه المهمة بدون أية مساعدة من الروبوت أو الزومبى". هذه المقابلة ضمنتها "دوود" داخل مقالة تحليلية كتبتها عن الفيلم من منظور نسوى معجب بالفيلم حيث ترى أن وقوع الذكر فى حب أنثى بلاستيكية بلا شعر هو انتصار لمفهوم الأنثى ككيان فوق جنسى. وهنا تجدر الإشارة إلى أن "دوود" كاتبة نسوية ذائعة الصيت لها كتاب بعنوان "هل الرجال ضروريون؟ عندما يتصادم الجنسان" بجانب عنوانه الصادم يروج هذا الكتاب لأفكار الحركات النسوية المعاصرة فى التمرد على طبيعة العلاقة التى تحكم الجنسين وفقا للمعايير البيولوجية، حتى انها ترفض معايير الجمال وإظهار الأنوثة التى تجذب الرجل لأنها فى نظرها تجعل من الأنثى أداة جنسية أو ساقطة.

على أية حال فإن تناول الأفلام من منظور نسوى أصبح موضة السنوات الأخيرة حتى لو لم يكن للفيلم علاقة بالصراع النوعى/الجنسى، فالنسوية تصيب أتباعها بنوع من البارانويا يجعلهم لا يرون الأشياء كما تبدو ويؤثرن التعمق المفتعل لفضح مؤامرة ما تحاك ضد المرأة، حتى انه ظهرت دعابة بإحدى مجلات الكوميك عن هذا الأمر ثم تحولت إلى إختبار فى تقييم الأفلام يسمى Bechdel Test إختبار بيتشدل وهذا الاختبار ينص على انه يجب على أى فيلم أن يحتوى على مشهد واحد على الأقل به أنثتين يتحدثن فى موضوع آخر غير الرجل كى لا يصنف ذلك الفيلم عنصرى ضد المرأة!

الآن، هل تناول فيلم Ex Machina من منظور نسوى أو لنقل جنسانى بشكل عام سيكون هو الآخر امتداد لهذه الموضة من البارانويا النسوية؟ الإجابة فى رأيى هى لا؛ حيث أن الفيلم احتوى على عديد من التفصيلات بل الأساسيات التى تؤكد ضلوعه فى التعرض للصراع الجنسانى Gender War، وبالتالى فالتعامل معه من المنطق الذى فرضه بنفسه إنما يكون عين الموضوعية.

 أولاً، خياره إعطاء الروبوت صفة جنسية (أنثى) بالرغم من انه لم يكن بحاجة لذلك لو كان محور قضية الفيلم يقتصر على البُعد التكنولوجى، كما حدث مع العديد من الروبوتات فى تاريخ السينما على سبيل المثال Hal 9000 فى فيلم "2001: أوديسة الفضاء" أو تارس فى فيلم Interstellar.

ثانياً، إختياره إسم Ava ليطلقه على الروبوت والذى يتشابه لدرجة التطابق مع اسم Eve أى حواء بالإنجليزية، وهو إيحاء شديد الوضوح بأنها ليست مجرد أنثى بل هى الأنثى.
 
ثالثاً، عندما نعلم قبل نهاية الأحداث بقليل أن "ناثان" قد صنع العديد من تلك الروبوتات لأغراض جنسية وقد أعطى لكل منهن عنصر شكلى مختلف: آسيوية/بيضاء/سوداء/شقراء/سمراء، وكأنه حول معمل إختباراته إلى حرملك حداثى يستطيع إشباع جميع النزوات والميول، ويكون فى هذا الحرملك هو السيد وهن العبيد، أو ليتحقق التعبير النسوى الشهير بشكل عملى هذه المرة فيصبحن بالفعل مجرد آلات جنسية لإشباع الرجل، فى ترميز واضح للصراع الجنسانى الكلاسيكى بين الذكر والأنثى.


لنسترسل قليلاً فيما وراء شخصية ناثان. هو بلا شك ترميز للذكورية البغيضة. ومن الممكن ان يعتبره البعض أيضاً ترميزاً للإله بالمفهوم التوراتى الكلاسيكى الذى خلق حواء (آفا) من ضلع آدم، والفيلم احتوى على ما يشبه قصة الخطيئة الأولى. وربما هو ليس الإله ولكنه الشيطان الذى تلاعب بأدم وحواء أو لنقل كاليب و آفا كى ينتصر فى تحدٍ ما. كل هذه الفرضيات ممكنة وأظنها تتكامل أكثر مما تتناقض. ولكنى أميل لأحسب ناثان بشكل أكبر كممثلاً للطبيعة، نلاحظ شكل المكان الذى يعيش به والذى يعج بكل مظاهر الطبيعة من أنهار وغابات وشلالات وجبال وهضاب، كما أن أحاديثه تصب دائما فى صالح النظرية التطورية، نلاحظ أيضاً ان عنوان الفيلم قد تلاعب بالتعبير الأصلى من الكلمة وهى Deus Ex Machina ،وكلمة Deus الذى تم الاستغناء عنها تعنى الإله باللغة الإغريقية، وكأن صانع الفيلم يريد استبعاد دور الإله بمفهومه الكلاسيكى سواء رمزياً أو على الأقل للتأكيد على اننا فى مرحلة ما بعد الإله، أو أن الانسان كجزء محرك للطبيعة التطورية أصبح هو الإله .


فى أحد أقوى مشاهد الفيلم يوجه كاليب سؤاله إلى ناثان أو كما ذهبنا فى الفقرة السابقة إلى أن ناثان هو الطبيعة إذا فالسؤال فى حقيقته هو للطبيعة: "لماذا أعطيت آفا الجنسانية؟"،   والحقيقة أن إجابة ناثان أتت قوية، مثيرة للتفكير، وموضوعية لدرجة كبيرة، ومن الإجحاف اعتبارها مجرد جزء من الخدعة التى يرتب لها ناثان.

والإجابة يمكن إختصارها فى شقين، الشق الأول ذو نزعة فرويدية يرى أن الجنس هو المحرك الأساسى لكل شىء، وما من وعى حقيقى عرفناه إللا وكان للجنس دوراً، فالوعى أساسه التواصل، والجنس هو المحور والمحفز الأهم للتواصل. أما الشق الثانى فهو دعوة لللا عقلانية، أو بمعنى أصح رفض المبالغة فى عقلنة كل شىء، وحساب كل فعل نفعله وفقاً لمعايير المنطق والسببية، وضرب مثل الرسام العبقرى الذى لو كان توقف ليتسائل عن السبب الموضوعى من وراء ما يفعله لما وطأت ريشته أية لوحة، فالمبالغة السببية تؤدى فى النهاية إلى وعى يتصرف بشكل أوتوماتيكى، بينما التحدى الحقيقى هو صنع وعى يتصرف بشكل غير أوتوماتيكى، من الرسم إلى التنفس إلى التحدث إلى ممارسة الجنس، إلى الوقوع فى الحب. لأن هذا ما يجعلنا بشراً ويميزنا عن الروبوتات حتى لو لم يكن لهذه الأفعال أى معنى حقيقى، وكانت محض وهم.

وهنا فالفيلم الذى يتخذ من الذكاء الاصطناعى تيمة لأحداثه نجده يعلى من شأن العاطفة أكثر من الذكاء ذاته، تجلى الأمر أيضاً بعد أول لقاء بين كاليب وآفا حين سأل ناثان "بماذا شعرت نحوها، لا أريد رأى تحليلى، فقط أريد أن اعرف بماذا شعرت؟" ليجيبه كاليب: "انها رائعة"، ثم تستمر الأحداث ونكتشف الخدعة ثلاثية الأضلاع، ناثان الذى يتلاعب بكاليب وآفا، ثم آفا التى تتلاعب بكاليب وناثان، ثم كاليب الذى يتلاعب بناثان، ثم نجد أن من ينتصر فى النهاية يكون آفا، لكن ماذا يعنى هذا الإنتصار على أية حال؟ !

هذا ما يرجعنا لحالة الصخب النسوى التى أثارها هذا الفيلم، ولنتوقف هذه المرة مع مقالة تحليلية لشخصية نسوية أخرى تدعى "ناتالى ويلسون" بمجلة "إم إس مجازين" وهى تختلف مع "مورين دوود" بأن الفيلم يروج للأفكار النسوية، حيث تقول: "أعترف بأن الفيلم يستكشف مسائل الجنس والنوع بأسلوب شيق لكنه يفشل فى إدانة الحالة التى يستخدم بها الجنس كأداة لتسيد المرأة" إنتهى. والأكثر إثارة هنا كان تعليق نسوى على هذا المقال لإمرأة تدعى كيت تقول: "أعتقد أن عدم إنجذاب آفا لأى من الرجلين هو اشارة إلى أنها فى الطريق السليم"، وباقى التعليق يؤكد على نفس الفكرة مع إضافة ما يوحى بأن الأنثى التى تنجذب لرجل ما جنسيا ليست حرة بل هى مجرد وعاء جنسى!

إذاً نستخلص من الثلاث أراء النسوية التى قمنا بعرضها حتى الآن بأن هذه الأيديولوجية النسوية تتبنى موقفاً عدائياً ضد الرجل، وعقدة ما تجاه الجنس، الأمر لم يعد سعياً للمساواة بين الرجل والمرأة ولتمكين المرأة من استرداد حقوقها الضائعة بل أصبح عبارة عن تكتلات عصابية تروج لكراهية الرجل والانعزال التدريجى عنه تحت شعارات الإستقلال والحرية.

حسناً، هل ما فعلته آفا فى النهاية كان معبراً عن الأيديولوجية النسوية؟ الإجابة هى نعم بكل تأكيد، فهى استخدمت الإغواء الجنسى كسلاح مبدئى لنيل استقلالها، وبعد أن أعطاها هذا السلاح بعض القوة للوصول لسلاح آخر إستحدمته فى قتل ناثان ممثل الذكورية والاستعباد، ولا يمكننا أن نلومها هنا لو تناولنا هذا القتل من منظور رمزى، حتى ما فعلته مع كاليب، الرجل الجيد الذى حاول مساعدتها لنيل حريتها وأحبها وبالتأكيد ليس معنى انجذابه الجنسى لها أنه كان يريد استخدامها كوعاء، ولكنها فى النهاية غدرت به أيضاً، وهذا يذكرنى بمبدأ أحمق تتبناه الحركات النسوية ينص على رفض مساعدة الرجل أو تدخله فى الشأن النسوى حتى لو بشكل إيجابى، وهناك مثال واضح على هذا الأمر سيعرفه من يتابع الشأن المصرى وقد حدث منذ شهرين عندما أعلن أحد النشطاء السياسيين الرجال عن مبادرة لدعم الإناث اللاتى يردن نيل حريتهن فى خلع الحجاب، وجاء رد فعل احدى الحركات النسوية تجاه هذا الأمر بالرفض لكون المبادرة أتت من رجل!

نعود للفيلم إذاً ونتسائل مجدداً، هل خيار آفا فى النهاية يعبر عن نجاح ناثان فى إختراعه الذى أراد به محاكاة تامة لوعى الإنسان؟، والإجابة سيسهل إستنتاجها مما ذكرناه طوال هذا المقال، والإجابة باختصار هى لا لم ينجح اختراع ناثان، لأن غريزة البقاء ليست وحدها ما يجعلنا بشراً، ولا الذكاء وحده ما يجعلنا بشراً، ولا حتى الحرية والاستقلال، بينما هى تنويعة بين عديد من التناقضات، الحماقات، الأساطير، العاطفة، والأوهام. فالحرية خارج اللُحمة الإنسانية ستؤدى فى النهاية إلى سجن من نوع آخر، وهو سجن الوحدة والإغتراب، هذان الشعوران هما تماماً ما شعرت بهما آفا فى آخر لقطة بالفيلم وهى متوقفة وسط طوفان من البشر الذين يسيرون فى تلاحم وحميمية مع أصدقائهم وأحبائهم وأقربائهم أو حتى يسيرون وحدهم ولكن هناك من ينتظرهم، أما آفا فهى ليست مثلهم ولن تكون، لذلك وجدناها تنسحب من وسط الجموع سريعاً وبفزع.

والآن بالرجوع للسؤال الذى وجهته "مورين دوود"" لصانع الفيلم: "من سيقضى على البشرية أولاً؟"، يمكننا أن نضيف خيارين جديدين، الاول هو النسوية التى تمثلها "دوود"، والثانى هو ان يفكر الإنسان بطريقة الروبوت. ولعلهم فى الحقيقة خيار واحد يتناغم مع رأى جارلاند بأننا نحن من سنقضى على أنفسنا!

Ex Machina .. هل الرجال ضروريون؟ (عندما يتصادم الجنسان)

كتب Amgad Gamal  |  نشر في :  8:34 م 0 تعليقات

السيرة السينمائية للمؤلف والروائى البريطانى "أليكس جارلاند" وما تتضمنها من أفلام مثل Sunshine و 28 Days Later و Dredd، تؤكد أن الرجل مصاب بوسواس الأفكار الأبوكاليبسية، سواء تلك التى تبشر بنهاية البشرية أو حتى بأوضاع مستقبلية متشائمة. فمثلا الفيلم الأول يضع ذلك الوسواس فى اطار كوزموسى تكون فيه حياة الانسان على الارض مهددة بسب إنطفاء الشمس، أما الثانى فهو أحد أشهر الأفلام التى تروج لأسطورة الزومبى وتكون فيه البشرية مهددة بانتشار هذا الوباء الخيالى المرعب، والثالث يدور فى حقبة زمنية طاغية الديستوبيا تكون فيها البشرية مهددة بسبب اختفاء مفهوم النظام. وحتى فيلمه Never Let Me Go المأخوذ عن الرواية الأكثر مبيعاً والذى ابتعد قليلاً عن هذا الوسواس لكنه ظل يبث التشاؤم حول المصير الظالم للحالة الانسانية مع تقدم الطب وتطور أنشطة نقل الأعضاء فى عالم صار فيه الانسان ذو الثروة وكرم النسب هو الأحق بالحياة ولو على حساب حياة الآخرين.

لم يتغير شىء فى فيلمه الأخير والأحدث Ex Machina سوى أنه انتقل من مرتبة الكاتب إلى مرتبة الكاتب والمخرج معاً، أما وسواس الفناء الذى يؤرقه فقد ظل حاضراً وبقوة فى حكايته عن "ناثان" ذلك المبرمج البليونير صاحب أكبر شركة لمحركات البحث فى العالم، والذى يجرى مسابقة لموظفى شركته جائزتها هى قضاء أسبوع فى قصره الأسطورى، يفوز بها "كاليب" الشاب الطموح المنطوى، وبعد ذهابه لقصر ناثان الغامض والمريب يكتشف أن مهمته هى أن يجرى "إختبار تيورينج" لأحدث اختراعات "ناثان" والذى كان عبارة عن روبوت فى هيئة أنثى مصممة بأعقد أساليب الذكاء الاصطناعى، ولمن لا يعلم "إختبار تيورينج" فهو طريقة علمية لإختبار آلات وبرامج الذكاء الاصطناعى وتقييم مدى تشابهها مع عقل الإنسان فى طريقة التفكير واتخاذ القرارات. ناثان يخبر كاليب بأنه يريد التأكد من كون اختراعه يملك وعياً حقيقياً مثل الذى يتمتع به الإنسان وليس مجرد وعى إستيهامى يعمل بطرق البرمجة التقليدية والألجوريزمات البسيطة.

بحماس حذر يوافق كاليب مخبراً ناثان بأن نجاح هذا الاختبار يعنى أن الإنسان قد تحول إلى إله، لكن ناثان لم يكن يشاطره نفس الحماس والطموح الإنسانوى، على العكس فقد أخبره لاحقاً أنه ذات يوم ستنظر آلات الذكاء الإصطناعى إلى الإنسان نفس النظرة التى ينظرها إنسان اليوم لحفريات الإنسان البدائى المنقرض فى أفريقيا. وهنا تظهر تيمتان رئيسيتان من تيمات الفيلم، تيمة الخلق وتيمة الإنقراض أو أن يحل الروبوت محل الإنسان فتكون النهاية، فكما نعرف أن جارلاند مصاب بوسواس الفناء. لكن السؤال هل التهديد هذه المرة حقاً يأتى من الروبوت؟


فى مقابلة أجرتها صحفية النيويورك تايمز "مورين دوود" مع صانع الفيلم جارلاند سألته متأثرة بتاريخه الروائى "من تظنه سيقضى على البشرية أولاً، الروبوت أم الزومبى؟"، فجائت إجابته "لا هذا ولا ذاك، سنقوم نحن [يقصد الإنسان] بهذه المهمة بدون أية مساعدة من الروبوت أو الزومبى". هذه المقابلة ضمنتها "دوود" داخل مقالة تحليلية كتبتها عن الفيلم من منظور نسوى معجب بالفيلم حيث ترى أن وقوع الذكر فى حب أنثى بلاستيكية بلا شعر هو انتصار لمفهوم الأنثى ككيان فوق جنسى. وهنا تجدر الإشارة إلى أن "دوود" كاتبة نسوية ذائعة الصيت لها كتاب بعنوان "هل الرجال ضروريون؟ عندما يتصادم الجنسان" بجانب عنوانه الصادم يروج هذا الكتاب لأفكار الحركات النسوية المعاصرة فى التمرد على طبيعة العلاقة التى تحكم الجنسين وفقا للمعايير البيولوجية، حتى انها ترفض معايير الجمال وإظهار الأنوثة التى تجذب الرجل لأنها فى نظرها تجعل من الأنثى أداة جنسية أو ساقطة.

على أية حال فإن تناول الأفلام من منظور نسوى أصبح موضة السنوات الأخيرة حتى لو لم يكن للفيلم علاقة بالصراع النوعى/الجنسى، فالنسوية تصيب أتباعها بنوع من البارانويا يجعلهم لا يرون الأشياء كما تبدو ويؤثرن التعمق المفتعل لفضح مؤامرة ما تحاك ضد المرأة، حتى انه ظهرت دعابة بإحدى مجلات الكوميك عن هذا الأمر ثم تحولت إلى إختبار فى تقييم الأفلام يسمى Bechdel Test إختبار بيتشدل وهذا الاختبار ينص على انه يجب على أى فيلم أن يحتوى على مشهد واحد على الأقل به أنثتين يتحدثن فى موضوع آخر غير الرجل كى لا يصنف ذلك الفيلم عنصرى ضد المرأة!

الآن، هل تناول فيلم Ex Machina من منظور نسوى أو لنقل جنسانى بشكل عام سيكون هو الآخر امتداد لهذه الموضة من البارانويا النسوية؟ الإجابة فى رأيى هى لا؛ حيث أن الفيلم احتوى على عديد من التفصيلات بل الأساسيات التى تؤكد ضلوعه فى التعرض للصراع الجنسانى Gender War، وبالتالى فالتعامل معه من المنطق الذى فرضه بنفسه إنما يكون عين الموضوعية.

 أولاً، خياره إعطاء الروبوت صفة جنسية (أنثى) بالرغم من انه لم يكن بحاجة لذلك لو كان محور قضية الفيلم يقتصر على البُعد التكنولوجى، كما حدث مع العديد من الروبوتات فى تاريخ السينما على سبيل المثال Hal 9000 فى فيلم "2001: أوديسة الفضاء" أو تارس فى فيلم Interstellar.

ثانياً، إختياره إسم Ava ليطلقه على الروبوت والذى يتشابه لدرجة التطابق مع اسم Eve أى حواء بالإنجليزية، وهو إيحاء شديد الوضوح بأنها ليست مجرد أنثى بل هى الأنثى.
 
ثالثاً، عندما نعلم قبل نهاية الأحداث بقليل أن "ناثان" قد صنع العديد من تلك الروبوتات لأغراض جنسية وقد أعطى لكل منهن عنصر شكلى مختلف: آسيوية/بيضاء/سوداء/شقراء/سمراء، وكأنه حول معمل إختباراته إلى حرملك حداثى يستطيع إشباع جميع النزوات والميول، ويكون فى هذا الحرملك هو السيد وهن العبيد، أو ليتحقق التعبير النسوى الشهير بشكل عملى هذه المرة فيصبحن بالفعل مجرد آلات جنسية لإشباع الرجل، فى ترميز واضح للصراع الجنسانى الكلاسيكى بين الذكر والأنثى.


لنسترسل قليلاً فيما وراء شخصية ناثان. هو بلا شك ترميز للذكورية البغيضة. ومن الممكن ان يعتبره البعض أيضاً ترميزاً للإله بالمفهوم التوراتى الكلاسيكى الذى خلق حواء (آفا) من ضلع آدم، والفيلم احتوى على ما يشبه قصة الخطيئة الأولى. وربما هو ليس الإله ولكنه الشيطان الذى تلاعب بأدم وحواء أو لنقل كاليب و آفا كى ينتصر فى تحدٍ ما. كل هذه الفرضيات ممكنة وأظنها تتكامل أكثر مما تتناقض. ولكنى أميل لأحسب ناثان بشكل أكبر كممثلاً للطبيعة، نلاحظ شكل المكان الذى يعيش به والذى يعج بكل مظاهر الطبيعة من أنهار وغابات وشلالات وجبال وهضاب، كما أن أحاديثه تصب دائما فى صالح النظرية التطورية، نلاحظ أيضاً ان عنوان الفيلم قد تلاعب بالتعبير الأصلى من الكلمة وهى Deus Ex Machina ،وكلمة Deus الذى تم الاستغناء عنها تعنى الإله باللغة الإغريقية، وكأن صانع الفيلم يريد استبعاد دور الإله بمفهومه الكلاسيكى سواء رمزياً أو على الأقل للتأكيد على اننا فى مرحلة ما بعد الإله، أو أن الانسان كجزء محرك للطبيعة التطورية أصبح هو الإله .


فى أحد أقوى مشاهد الفيلم يوجه كاليب سؤاله إلى ناثان أو كما ذهبنا فى الفقرة السابقة إلى أن ناثان هو الطبيعة إذا فالسؤال فى حقيقته هو للطبيعة: "لماذا أعطيت آفا الجنسانية؟"،   والحقيقة أن إجابة ناثان أتت قوية، مثيرة للتفكير، وموضوعية لدرجة كبيرة، ومن الإجحاف اعتبارها مجرد جزء من الخدعة التى يرتب لها ناثان.

والإجابة يمكن إختصارها فى شقين، الشق الأول ذو نزعة فرويدية يرى أن الجنس هو المحرك الأساسى لكل شىء، وما من وعى حقيقى عرفناه إللا وكان للجنس دوراً، فالوعى أساسه التواصل، والجنس هو المحور والمحفز الأهم للتواصل. أما الشق الثانى فهو دعوة لللا عقلانية، أو بمعنى أصح رفض المبالغة فى عقلنة كل شىء، وحساب كل فعل نفعله وفقاً لمعايير المنطق والسببية، وضرب مثل الرسام العبقرى الذى لو كان توقف ليتسائل عن السبب الموضوعى من وراء ما يفعله لما وطأت ريشته أية لوحة، فالمبالغة السببية تؤدى فى النهاية إلى وعى يتصرف بشكل أوتوماتيكى، بينما التحدى الحقيقى هو صنع وعى يتصرف بشكل غير أوتوماتيكى، من الرسم إلى التنفس إلى التحدث إلى ممارسة الجنس، إلى الوقوع فى الحب. لأن هذا ما يجعلنا بشراً ويميزنا عن الروبوتات حتى لو لم يكن لهذه الأفعال أى معنى حقيقى، وكانت محض وهم.

وهنا فالفيلم الذى يتخذ من الذكاء الاصطناعى تيمة لأحداثه نجده يعلى من شأن العاطفة أكثر من الذكاء ذاته، تجلى الأمر أيضاً بعد أول لقاء بين كاليب وآفا حين سأل ناثان "بماذا شعرت نحوها، لا أريد رأى تحليلى، فقط أريد أن اعرف بماذا شعرت؟" ليجيبه كاليب: "انها رائعة"، ثم تستمر الأحداث ونكتشف الخدعة ثلاثية الأضلاع، ناثان الذى يتلاعب بكاليب وآفا، ثم آفا التى تتلاعب بكاليب وناثان، ثم كاليب الذى يتلاعب بناثان، ثم نجد أن من ينتصر فى النهاية يكون آفا، لكن ماذا يعنى هذا الإنتصار على أية حال؟ !

هذا ما يرجعنا لحالة الصخب النسوى التى أثارها هذا الفيلم، ولنتوقف هذه المرة مع مقالة تحليلية لشخصية نسوية أخرى تدعى "ناتالى ويلسون" بمجلة "إم إس مجازين" وهى تختلف مع "مورين دوود" بأن الفيلم يروج للأفكار النسوية، حيث تقول: "أعترف بأن الفيلم يستكشف مسائل الجنس والنوع بأسلوب شيق لكنه يفشل فى إدانة الحالة التى يستخدم بها الجنس كأداة لتسيد المرأة" إنتهى. والأكثر إثارة هنا كان تعليق نسوى على هذا المقال لإمرأة تدعى كيت تقول: "أعتقد أن عدم إنجذاب آفا لأى من الرجلين هو اشارة إلى أنها فى الطريق السليم"، وباقى التعليق يؤكد على نفس الفكرة مع إضافة ما يوحى بأن الأنثى التى تنجذب لرجل ما جنسيا ليست حرة بل هى مجرد وعاء جنسى!

إذاً نستخلص من الثلاث أراء النسوية التى قمنا بعرضها حتى الآن بأن هذه الأيديولوجية النسوية تتبنى موقفاً عدائياً ضد الرجل، وعقدة ما تجاه الجنس، الأمر لم يعد سعياً للمساواة بين الرجل والمرأة ولتمكين المرأة من استرداد حقوقها الضائعة بل أصبح عبارة عن تكتلات عصابية تروج لكراهية الرجل والانعزال التدريجى عنه تحت شعارات الإستقلال والحرية.

حسناً، هل ما فعلته آفا فى النهاية كان معبراً عن الأيديولوجية النسوية؟ الإجابة هى نعم بكل تأكيد، فهى استخدمت الإغواء الجنسى كسلاح مبدئى لنيل استقلالها، وبعد أن أعطاها هذا السلاح بعض القوة للوصول لسلاح آخر إستحدمته فى قتل ناثان ممثل الذكورية والاستعباد، ولا يمكننا أن نلومها هنا لو تناولنا هذا القتل من منظور رمزى، حتى ما فعلته مع كاليب، الرجل الجيد الذى حاول مساعدتها لنيل حريتها وأحبها وبالتأكيد ليس معنى انجذابه الجنسى لها أنه كان يريد استخدامها كوعاء، ولكنها فى النهاية غدرت به أيضاً، وهذا يذكرنى بمبدأ أحمق تتبناه الحركات النسوية ينص على رفض مساعدة الرجل أو تدخله فى الشأن النسوى حتى لو بشكل إيجابى، وهناك مثال واضح على هذا الأمر سيعرفه من يتابع الشأن المصرى وقد حدث منذ شهرين عندما أعلن أحد النشطاء السياسيين الرجال عن مبادرة لدعم الإناث اللاتى يردن نيل حريتهن فى خلع الحجاب، وجاء رد فعل احدى الحركات النسوية تجاه هذا الأمر بالرفض لكون المبادرة أتت من رجل!

نعود للفيلم إذاً ونتسائل مجدداً، هل خيار آفا فى النهاية يعبر عن نجاح ناثان فى إختراعه الذى أراد به محاكاة تامة لوعى الإنسان؟، والإجابة سيسهل إستنتاجها مما ذكرناه طوال هذا المقال، والإجابة باختصار هى لا لم ينجح اختراع ناثان، لأن غريزة البقاء ليست وحدها ما يجعلنا بشراً، ولا الذكاء وحده ما يجعلنا بشراً، ولا حتى الحرية والاستقلال، بينما هى تنويعة بين عديد من التناقضات، الحماقات، الأساطير، العاطفة، والأوهام. فالحرية خارج اللُحمة الإنسانية ستؤدى فى النهاية إلى سجن من نوع آخر، وهو سجن الوحدة والإغتراب، هذان الشعوران هما تماماً ما شعرت بهما آفا فى آخر لقطة بالفيلم وهى متوقفة وسط طوفان من البشر الذين يسيرون فى تلاحم وحميمية مع أصدقائهم وأحبائهم وأقربائهم أو حتى يسيرون وحدهم ولكن هناك من ينتظرهم، أما آفا فهى ليست مثلهم ولن تكون، لذلك وجدناها تنسحب من وسط الجموع سريعاً وبفزع.

والآن بالرجوع للسؤال الذى وجهته "مورين دوود"" لصانع الفيلم: "من سيقضى على البشرية أولاً؟"، يمكننا أن نضيف خيارين جديدين، الاول هو النسوية التى تمثلها "دوود"، والثانى هو ان يفكر الإنسان بطريقة الروبوت. ولعلهم فى الحقيقة خيار واحد يتناغم مع رأى جارلاند بأننا نحن من سنقضى على أنفسنا!

0 التعليقات:

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
back to top