النبرة السياسية في سينما "محمد خان"

كتب Amgad Gamal  |  نشر في :  5:02 م 0

  
نشر هذا المقال في عدد شهر سبتمبر 2016 من مجلة الدوحة الثقافية

كان المخرج المصرى الراحل "محمد خان" دائم التعبير عن ولعه بسينما الإيطالى "أنطونيونى" أحد أعمدة سينما الحداثة الأوروبية فى الستينيات. يقول خان فى كتابه، الذى صدر العام الماضى بعنوان "مخرج على الطريق"، أنه فى اليوم الذى شاهد فيلم "المغامرة" لأنطونيونى تأكد أن صناعة الأفلام هى الشىء الذى يريد فعله بقية حياته، وتابع: "دارت الأيام والتقيت بأنطونيونى فى أثناء انعقاد مهرجان قرطاج السينمائى عام 1984 وذكّرت أنطونيونى بمقولة قرأتها له تصرح بأن كل مخرج، فعلياً، يخرج فيلماً أوحد فى حياته، وأن بقية الأفلام ليست إللا تكرارًا لهذا الفيلم. وكان رده طريفًا وساخرًا حين قال: إذا كان المخرج مجتهدا بما فيه الكفاية فربما يقدم فيلمين بدلاً من فيلم واحد."

نظرية أنطونيونى وإن بدت متطرفة يظل بها جزء من الحقيقة، فهناك عامل مشترك يجمع بين أفلام كل مخرج، هذا العامل هو جزء من شخصيته، لمحة شكّلت وجدانه، أو هَمّ ظل يؤرقه ونتج منه فنه، فتكرر رغمًا عنه مع توالى أعماله. ولا شكّ بأن محمد خان كان أحد المخرجين المُجتهدين فى عُرف أنطونيونى، أى الذين يصنعون الفيلمين بدل الواحد، أو بكلمات أخرى، يسهل تقسيم مشواره الفنى إلى توجُهين، فأفلام النصف الأول من هذا المشوار تنتمى لنوع السينما المهمومة بقضية ذات بُعد سياسى، وذلك منذ أول أفلامه فى أواخر السبعينات وحتى مطلع التسعينات. أما التوجه الثانى ففى النصف الأخير من مشواره، حيث سينما أكثر تصالحا وزهدا .. سينما تخطت حاجز القضية واكتفت بكونها مجرد قصص إنسانية تقدم البهجة أو المتعة أو الشجن وعلى وعى بأنها لا تستطيع تغيير العالم، بما فى ذلك فيلمه "أيام السادات - 2001"، حيث يقول خان أنه لم يخرجه إللا من أجل صديقه ورفيق نجاحاته "أحمد زكى"، وأن ما شدّه بالقصة هو ثراء الشخصية وبُعدها الإنسانى، وكانت رؤيته خالية من أى أغراض سياسية.


اختصاراً، لو اعتبرنا مشوار خان السينمائى رجلاً فسيكون تجسيداً للمقولة المنسوبة إلى "وينستون تشيرشل": "إذا لم يكن المرء اشتراكياً فى العشرينات من عُمره فهو بلا قلب، وإذا لم يتحول إلى يمينى فى أربعيناته فهو بلا عقل". وقد كان خان يرى، فعلا، بالفكرة الاشتراكية نوعاً من الرومانسية، ففى أحد حواراته المصورة عندما يُسأل عن ميوله الاشتراكية، يجيب: "الفنان يجب أن يكون اشتراكيًا، ينبغى أن يؤمن بعدالة اجتماعية، وأن يثير الفقراء اهتمامه، فالاشتراكية تعطى الفنان رؤية عاطفية للعالم لأنها متجردة من القسوة". ربما هناك كثير من الأمثلة التى تدحض تعميم خان، منها مثلا المخرج الأميركى "كلينت إيستوود" الذى صنع أفلاماً شديدة الإنسانية رغم أنه اشتهر بكونه يمينى صرف، لكن ما يهمنا فى تصريح خان أنه يؤكد على ميوله هو على الأقل.

أتوقف أمام مقطع آخر من كتابه المذكور، يحكى فيه ذكرياته وهو شاب فى إنجلترا بمطلع ستينيات القرن الماضى، فيقول: "... تلك كانت أيام الموجة الجديدة فى السينما الفرنسية والتشيكية والانجليزية وغيرها. كلها التقت فى لندن قبل أن تبتلعها هوليوود مع وصول ماكدونالد وبيتزا هات و32 صنف أيس كريم." نلاحظ فى الحديث نبرة ازدراء للثقافة الاستهلاكية والرأسمالية ورموزها، وكيف يراها كانت سبباً فى تفسخ القيم وانحدار الفن. ولعل تلك النبرة كانت الهمّ السياسى الرئيسى الذى غلب على أفلامه فى النصف الأول من مشواره، هذا النصف الذى تزامن مع قرارات الرئيس السادات بالانفتاح الاقتصادى لمصر على العالم والحدّ من السياسات الاشتراكية. وبدأ هذا الهمّ فى أعمال خان المُبكرة مفتقداً للنضج والتسييس الكافى، واقتصر على احتفاء بالطبقة العاملة والبسطاء، مقابل غضب تجاه طبقة الأثرياء وخاصة باقتران هذا الثراء بالنفوذ والسلطة والفساد، ويظهر ذلك فى أفلام مثل "ضربة شمس – 1978" و "موعد على العشاء – 1981".

أول الأفلام التى يمكننا القول بأن الهمّ بها قد تحول من مجرد انفعال إنسانى إلى بذرة رؤية سياسية ناضجة حول أسباب الظلم الاجتماعى، كان فيلم "نص أرنب – 1982"، الفيلم الذى يروى قصة مجموعة من البشر من مختلف الطبقات تتصارع على مبلغ مسروق، هذا المبلغ كان رمزاً للثروة العامة، فكل منهم يريد الاغتناء على حساب الآخر، وفى سبيل ذلك يدخلون فى معارك عبثية طاحنة لا يخرج منها فى النهاية أحدٌ فائزاً. المشهد الأبرز فى هذا الفيلم كان حين دلفت العصابة لتفتيش منزل "يوسف"، مُمثل الطبقة المتوسطة الذى تورط فى الصراع على المبلغ (الثروة)، وقتها ظنّت الأم أنهم أفراد البوليس السياسى كما جرت العادة قديماً، فصاحت بهم أن ولدها يوسف ليست لديه ميول سياسية! ولم تكن ما قالته مجرد جُملة عابرة يوحى فيها صانع الفيلم بسذاجة الأم، بل نص تحتى يريد القول أنه فى عصر الانفتاح ورفع يد الدولة عن الاقتصاد أصبحت عصابات المال المسيطرة على العالم هى الوجه الجديد من الاستبداد.


 

تستمر تلك النبرة مع فيلم خان التالى "الحريف -1983"، عن حياة لاعب الكُرة الهاوى بالحىّ الشعبى الفقير، ويذكرنى هذا الفيلم بالمقولة الشهيرة: "نحن نعمل لنجنى المال كى نستطيع الحياة، لكن فى خضم التكالب على جنى هذا المال، لا نجد الوقت للحياة"، هذا تحديداً ما يقدمه خان فى "الحريف"، فهناك خياران، إما اللعب كرمز للحياة وإما الصراع العبثى على الثروة، يحدث ذلك أيضاً على إيقاع الانفتاح الاقتصادى وأعراضه الجانبية من شيوع التسلّق والاستغلال والغش، فنجد "شعبان" الذى ترك اللعب واتجه لسرقة وتهريب السيارات حتى كوّن إمبراطوريته، وهناك "سلامة" الذى ترك اللعب أيضاً واتجه للمنطقة الاقتصادية الحرة "بورسعيد" للعمل كتاجر شنطة، ليبقى بطل الفيلم "فارس" فى صراع داخلى/خارجى حول الخيارين، فنخرج كمشاهدين فى النهاية بصورة واضحة عن حجم التفسخ فى القيم الذى تسببت به الرأسمالية، وتحويلها الإنسان إلى ترس فى ماكينة (كما يجرى التعبير الماركسى الشهير)، وقد كان بطل الفيلم يعمل (حرفياً) على ماكينة فى أحد المصانع قبل أن يُرفد لأنه لم يستطع مجاراة قوانين الواقع.


ويمتد رصد تفسخ القيم كنتيجة للسياسات الاقتصادية فى أفلام خان التالية وأبرزها "خرج ولم يعُد – 1984"، الذى آثر فيه هذه المرة حل الهروب من العاصمة بصراعاتها وضوضائها وفسادها وتلوثها وقبحها وجشعها، والرجوع للطبيعة، حيث عالم نقى وبشر تتحدث لغة أخرى غير لغة المال. لكنه يعود مجدداً للمواجهة بفيلم "عودة مواطن – 1986"، عن ذلك الأخ الأكبر الذى يرجع لمصر بعد سنوات من العمل فى الخليج مُدخراً مبلغ وقدره من المال، ويسعى به لدعم أشقائه الأصغر، لكنه يُفاجأ بعالم جديد غير الذى تركه، عالم أشبه بغابة يسعى كل فرد فيها للصعود على جثة الآخر، فيكتشف فى أيام قليلة من عودته أنه تعرض لعملية نصب مالى، وأن حبيبته القديمة تركته وتزوجت رجلاً ثرى يكبُرها بقدر كبير من العُمر، وأن محل عمله القديم تحول إلى "كباريه"، وأن عصر الوظائف قد انتهى، وانهارت الطبقة الوسطى لدرجة أن بناتها أصبحن يعملن نادلات فى الفنادق مثل أخته الصغرى، ولم يعُد أمام الشباب طريق سوى التغافل بتعاطى المخدرات أو الانخراط فى أنشطة سياسية خطرة لتغيير الأوضاع.

فى هذا الفيلم قيلت بعض الجُمل على لسان "مهدى" الأخ الأصغر لشاكر، يمكنها تلخيص هواجس وهموم خان عبر النصف الأول من مسيرته السينمائية، فمهدى العدمى المتشائم (الواقعى) ينصح أخاه شاكر فى نهاية الفيلم بترك القاهرة والعودة للخليج إذا لم يكن مستعداً للقبول بقيم المجتمع المصرى الجديد وإيجاد سكة للتسلق والاستغلال مثلما فعلت أختهم "فوزية". هذه الرؤية تتكرر بفيلم تالى لخان هو "سوبر ماركت – 1990"، ومن عنوانه يطرح مفهوم تحول العالم إلى سوق، والبشر إلى سلع، وتتكرر جملة مهدى السابقة، هذه المرة، على لسان شخصية عزمى الرجل فاحش الثراء الذى يرى أنه لا سبيل للارتقاء الاقتصادى سوى بتقديم تنازلات أخلاقية.

ما يميّز المحتوى السياسى فى الأعمال السابقة شيئان: أولاً عدم المُباشرة، فالسياسة كما أسميها فى عنوان هذا المقال مجرد "نبرة"، أى أنها لم تتحول بَعد لصوت أو لغة صريحة بالمقارنة، مثلاً، مع أفلام "عاطف الطيب" رفيق جيل خان، والذى شغله نفس همّ خان السياسى، ولكنه عبّر عنه فى أعماله بشكل أكثر مباشرة من خان. وثانياً أن ذلك المحتوى غير مقيد بالظرف المحلى ويتسم بصبغة عالمية يمتد الشعور بها من القاهرة إلى نيويورك إلى هونج كونج، أو أى بقعة جغرافية طغت بها الثقافة الاستهلاكية على حياة الإنسان. لم يقدم خان نقداً للسلطة المصرية بعينها أو به صبغة محلية حصرية سوى فى فيلم "زوجة رجل مهم – 1987"، عن ضابط الشرطة هشام (أحمد زكى) الذى يستغل نفوذه ويتورط فى ممارسات يُقال أنها ضد القانون فيُفصل على إثرها من عمله. ويُمكن اعتبار هذا الفيلم نزوة شخصية من خان، حيث قدمه على خلفية مشاجرة فعلية حدثت بينه وبين ضابط شرطة فقرر بعدها أن ينتقم منه بفيلم.

 
لكن يبدو أن شخصنة الخلاف داخل فيلم نتج عنها رؤية مُتحاملة لشخصية هشام أو لتعقيد الأوضاع فيما عُرف بانتفاضة 18 يناير 1977، التى قامت ضد قرار سيادى بغلاء الأسعار، وهى الانتفاضة التى شارك الضابط هشام فى قمعها. هذا التحامل رصده الناقد "سمير فريد" فى مقال هجومى على الفيلم نُشر بمجلة "القاهرة" عام 1988، كرّسه فى تفنيد كل الحجج ضد هشام، يقول فى مقطع من المقال: "المشكلة هنا أن ضابط الشرطة يمارس عمله إزاء مظاهرات وصلت لحد التخريب كما جاء على لسان "منى"... حتى استخدام هشام لزوجته فى الحصول على معلومات عن زملائها يأتى فى سياق ممارسته لعمله... وهذا الموقف من هشام ضد زوجته يعنى أنه عندما يختار بين الواجب والعاطفة يختار الواجب مثل أبطال الدراما الكلاسيكية النبلاء، على عكس ما يتصور صناع الفيلم. فالنذالة لا تكون إللا حين تكون الشخصية على وعى تام بالفعل الذى يوصفها بالنذالة، وقناعة هشام هنا والتى لا ينكرها الفيلم أنه يفعل ذلك من أجل "إنقاذ البلد" دون أى قدر من الادعاء أو الكذب على نفسه، فما الذى يجعلنا كتمفرجين نكره هشام؟"

ويتابع فريد: "تظل نصيحة بريخت صحيحة تماماً عندما قال لا تصنعوا الأفلام السياسية بطريقة غير سياسية"، حسناً، إن اتفقت مع فريد فى أن هناك تحامل على شخصية هشام وأنه لم يستحق فعلاً تلك النهاية المأساوية، فإنى أختلف معه فى كون ذلك سبباً لكُره الفيلم، لأنه مَبنى على افتراض غير دقيق بأن الحياة، فى الدراما أو الواقع، لابد وأن تكون عادلة. أما السبب الحقيقي لعظمة هذا الفيلم ليس مصداقيته السياسية، بل كونه دراسة حالة شديدة العمق عن الهوس المهني وجنون العظمة.

التسميات:

شارك الموضوع



0 التعليقات:

back to top